التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١١١
وملوكا على رقاب العالمين.
فانظروا إلى ما صاروا إليه في آخر أمورهم، حين وقعت الفرقة وتشتتت الألفة، واختلفت الكلمة والأفئدة، وتشعبوا مختلفين، وتفرقوا متحاربين، قد خلع الله عنهم لباس كرامته. وسلبهم غضارة نعمته 1، وبقي قصص أخبارهم فيكم عبرا للمعتبرين منكم.
فاعتبروا بحال ولد إسماعيل وبني إسحاق وبني إسرائيل عليهم السلام، فما أشد اعتدال الأحوال 2 وأقرب اشتباه الأمثال.
تأملوا أمرهم في حال تشتتهم وتفرقهم ليالي كانت الأكاسرة والقياصرة أربابا لهم. يختارونهم عن ريف الآفاق 3، وبحر العراق 4 وخضرة الدنيا، إلى منابت الشيح ومهافي الريح 5، ونكد المعاش 6 فتركوهم عالة مساكين، إخوان دبر ووبر 7، أذل الأمم دارا، وأجدبهم قرارا، لا يأوون إلى جناح دعوة يعتصمون بها، ولا إلى ظل ألفة يعتمدون على عزها، فالأحوال مضطربة، والأيدي مختلفة، والكثرة متفرقة، في بلاء أزل 8 وأطباق جهل 9، من بنات موؤودة، وأصنام معبودة، وأرحام مقطوعة، وغارات مشنونة.
فانظروا إلى مواقع نعم الله عليهم حين بعث إليهم رسولا، فعقد بملته طاعتهم، وجمع على دعوته ألفتهم كيف نشرت النعمة عليهم جناح كرامتها، وأسالت لهم جداول نعيمها. والتفت الملة بهم في عوائد بركتها، فأصبحوا في نعمتها غرقين 10 وفي خضرة عيشها فكهين 11 قد تربعت الأمور بهم 12 في ظل سلطان قاهر وآوتهم الحال إلى كنف عز غالب 13

(1) الغضارة: النعمة اللينة الطيبة.
(2) ما أشد اعتدال الأحوال: ما أشبه الأشياء بعضها ببعض.
(3) الريف: الأرض ذات الخصب والزرع، والجمع أرياف.
(4) بحر العراق: دجلة والفرات. قال ابن أبي الحديد: 13 / 173 أما الأكاسرة فطردوهم عن بحر العراق، وأما القياصرة فطردوهم عن ريف الآفاق أي عن الشام وما فيه من المرعى والمنتجع.
(5) يقصد البادية الخالية من الزرع والمياه والعمران.
(6) نكد المعاش: قلته، وصعوبة الحصول عليه، وخشونته.
(7) عالة: فقراء (دبر ووبر) دبر البعير عقرة القتب. والوبر للبعير بمنزلة الصوف للضأن. يريد أنهم كانوا عالة فقراء يمثل البعير ثروتهم، ومرضه شغلهم الشاغل.
(8) الأزل: الضيق والشدة، يريد بلاء شديدا شغلهم عن كل شئ.
(9) أطباق، جمع طبق. أي جهل متراكم بعضه فوق بعض.
(10) غرقين: من الغرق، مبالغة في وصف ما هم فيه من النعمة.
(11) فكهين: بمعنى ناعمين.
(12) تربعت الأمور بهم، أي أقامت، من: ربع بالمكان أي أقام فيه، يعني استقرار أحوالهم السياسية والمعيشية.
(13) آوتهم الحال: ضمتهم وأنزلتهم، والكنف: الجانب.
(١١١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 106 107 108 109 110 111 112 113 114 115 116 ... » »»