الدر المنثور - جلال الدين السيوطي - ج ٤ - الصفحة ٢٤٤
بينكم وبينهم ردما اغدو إلى الصخور والحديد والنحاس حتى ارتاد بلادهم واعلم علمهم وأقيس ما بين جبليهم ثم انطلق يؤمهم حتى دفع إليهم وتوسط بلادهم فإذا هم على مقدار واحد أنثاهم وذكرهم مبلغ طول الواحد منهم مثل نصف الرجل الربوع منا لهم مخاليب في مواضع الأظفار من أيدينا ولهم أنياب وأضراس كأضراس السباع وأنيابها وأحناك كأحناك الإبل فوه يسمع له حركة إذا أكل كحركة الجرة من الإبل أو كقضم الفحل المسن أو الفرس القوى وهم صلب عليهم من الشعر في أجسادهم ما يواريهم وما يتقون به من الحر والبرد إذا أصابهم ولكل واحد منهم أذنان عظيمتان إحداهما وبرة ظهرها وبطنها والأخرى زغبة ظهرها وبطنها تسعانه إذا لبسهما يلبس إحداهما ويفترش الأخرى ويصيف في إحداهما ويشتو في الأخرى وليس منهم ذكر ولا أنثى الا وقد عرف أجله الذي يموت فيه ومنقطع عمره وذلك أنه لا يموت ميت من ذكورهم حتى يخرج من صلبه ألف ولد ولا تموت الأنثى حتى يخرج من رحمها ألف ولد فإذا كان ذلك أيقن بالموت وتهيأ له وهم يرزقون التنين في زمان الربيع ويستمطرونه إذا تحينوه كما يستمطر الغيث لحينه فيقذفون منه كل سنة بواحد فيأكلونه عامهم كله إلى مثلها من قابل فيعينهم على كثرتهم وما هم فيه فإذا أمطروا اخصبوا وعاشوا وسهؤا ورؤى أثره عليهم فدرت عليهم الإناث وشبقت منهم الذكور وإذا أخطأهم هزلوا وأحدثوا وجفلت منهم الذكور وأحالت الإناث وتبين أثر ذلك عليهم وهم يتداعون تداعى الحمام ويعوون عوي الذئاب ويتسافدون حيثما التقوا تسافد البهائم ثم لما عاين ذلك منهم ذو القرنين انصرف إلى ما بين الصدفين فقاس ما بينهما وهي في منقطع أرض الترك مما يلي الشمس فوجد بعد ما بينهما مائة فرسخ فلما أنشأ في عمله حفر له أساسا حتى بلغ الماء ثم جعل عرضه خمسين فرسخا وجعل حشوه الصخور وطينه النحاس يذاب ثم يصب عليه فصار كأنه عرق من جبل تحت الأرض ثم علاه وشرفه بزبر الحديد والنحاس المذاب وجعل خلاله عرقا من نحاس أصفر فصار كأنه برد محبر من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد فلما فرغ منه وأحكم انطلق عامدا إلى جماعة الإنس والجن فبينما هو يسير إذ رفع إلى أمة صالحة يهتدون بالحق وبه يعدلون فوجد أمة مقسطة يقتسمون بالسوية ويحكمون بالعدل ويتأسون ويتراحمون حالهم واحدة وكلمتهم واحدة وأخلاقهم مشتبهة وطريقتهم مستقيمة وقلوبهم مؤتلفة وسيرتهم مستوية وقبورهم بأبواب بيوتهم وليس على بيوتهم أبواب وليس عليهم أمراء وليس بينهم قضاة وليس فيهم أغنياء ولا ملوك ولا أشراف ولا يتفاوتون ولا يتفاضلون ولا يتنازعون ولا يستبون ولا يقتتلون ولا يقحطون ولا يحر دون ولا تصيبهم الآفات التي تصيب الناس وهم أطول الناس أعمارا وليس فيهم مسكين ولا فقير ولا فظ ولا غليظ فلما رأى ذلك ذو القرنين من أمرهم أعجب منهم وقال لهم أخبروني أيها القوم خبركم فأتى قد أحصيت الأرض كلها برها وبحرها وشرقها وغربها ونورها وظلمتها فلم أجد فيها أحدا مثلكم فأخبروني خبركم قالوا نعم سلنا عما تريد قال أخبروني ما بال قبوركم على أبواب بيوتكم قالوا عمدا فعلنا ذلك لئلا ننسى الموت ولا يخرج ذكره من قلوبنا قال فما بال بيوتكم ليس عليها أبواب قالوا ليس فينا متهم وليس فينا الا أمين مؤتمن قال فما بالكم ليس عليكم أمراء قالوا ليس فينا مظالم قال فما بالكم ليس بينكم حكام قالوا لا نختصم قال فما بالكم ليس فيكم أغنياء قالوا لا نتكاثر قال فما بالكم ليس فيكم أشراف قالوا لا نتنافس قال فما بالكم لا تتفاوتون ولا تتفاضلون قالوا من قبل انا متواصلون متراحمون قال فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون قالوا من قبل إلفة قلوبنا وصلاح ذات بيننا قال فما بالكم لا تقتتلون ولا تستبون قالوا من قبل انا غلبنا طبائعنا بالعزم وسسنا أنفسنا بالحلم قال فما بال كلمتكم واحدة وطريقتكم مستقيمة قالوا من قبل انا لا نتكاذب ولا نتخادع فلا يغتاب بعضنا بعضا قال فأخبروني من أين تشابهت قلوبكم واعتدلت سيرتكم قالوا صحت صدورنا فنزع الله بذلك الغل والحسد من قلوبنا قال فما بالكم ليس فيكم مسكين ولا فقير قالوا من قبل انا نقسم بالسوية قال فما بالكم ليس فيكم فظ ولا غليظ قالوا من قبل الذل والتواضع قال فما بالكم جعلتم أطول الناس أعمارا قالوا من قبل انا نتعاطى الحق ونحكم بالعدل قال فما بالكم لا تقحطون قالوا لا لا نغفل عن الاستغفار قال فما بالكم لا تحردون قالوا من قبل انا وطنا أنفسنا للبلاء منذ كنا وأحببناه وحرصنا عليه فعرينا منه قال فما بالكم لا تصيبكم الآفات كما تصيب الناس قالوا لا نتوكل على غير الله ولا نعمل بأنواء النجوم قال
(٢٤٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 239 240 241 242 243 244 245 246 247 248 249 ... » »»
الفهرست