تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٧٨
الجمع اتباع.
* (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) * هذا مؤكد لما قبله من قوله * (والحرمات قصاص) * وقد اختلف فيها: أهي منسوخة أم لا؟ على ما تقدم من مذهب الشافعي ومذهب مالك.
وقال ابن عباس: نزلت هذه الآية وما بمعناها بمكة، والاسلام لم يعز، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم) وعز دينه، أمرالمسلمون برفع أمورهم إلى حكامهم، وأمروا بقتال الكفار.
وقال مجاهد: بل نزلت هذه الآية بالمدينة بعد عمرة القضاء، وهو من التدريج في الأمر بالقتال.
وقوله: * (فاعتدوا) * ليس أمرا على التحتم إذ يجوز العفو، وسمي ذلك اعتداء على سبيل المقابلة، والباء في: بمثل، متعلقة بقوله: فاعتدوا عليه، والمعنى: بعقوبة مثل جناية اعتدائه، وقيل: الباء زائدة، أي: مثل اعتدائه، وهو نعت لمصدر محذوف، أي: اعتداء مماثلا لاعتدائه.
* (واتقوا الله) * أمر بتقوى الله فيدخل فيه اتقاؤه بأن لا يتعدى الإنسان في القصاص من إلى ما لا يحل له.
* (واعلموا أن الله مع المتقين) * بالنصرة والتمكين والتأييد، وجاء بلفظ: مع، الدالة على الصحبة والملازمة حضا على الناس بالتقوى دائما إذ من كان الله معه فهو الغالب المنتصر، ألا ترى إلى ما جاء في الحديث (أرموا وأنا مع بني فلان)؛ فأمسكوا، فقال: (إرموا وأنا معكم كلكم؛) أو: كلاما هذا معناه، وكذلك قوله لحسان: (إهجم وروح القدس معك)؛ * (وأنفقوا فى سبيل الله) * هذا أمر بالإنفاق في طريق الإسلام، فلكل ما كان سبيلا لله وشرعا له كان مأمورا بالاتفاق فيه؛ وقيل: معناه الأمر بالانفاق في أثمان آلة الحرب، وقيل: على المقلين من المجاهدين، قاله ابن عباس، قال: نزلت في أناس من الأعراب سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فقالوا: بماذا نتجهز؟ فوالله ما لنا زاد وقيل: في الجهاد على نفسه وعلى غيره، وقيل: المعنى: إبذلوا أنفسكم في المجاهدة في سبيل الله.
وسمي بذل النفس في سبيل الله إنفاقا مجازا وأتساعا كقول الشاعر:
* وأنفقت عمري في البطالة والصبا * فلم يبق لي عمر ولم يبق لي أجر * والأظهر القول الأول، وهو: الأمر بصرف المال في وجوه البر من حج، أو عمرة، أو جهاد بالنفس، أو بتجهيز غيره، أو صلة رحم، أو صدقة، أو على عيال، أو في زكاة، أو كفارة، أو عمارة سبيل، أو غير ذلك. ولما اعتقبت هذه الآية لما قبلها مما يدل على القتال والأمر به، تبادر إلى الذهن النفقة في الجهاد للمناسبة.
* (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) * قال عكرمة: نزلت في الأنصار، أمسكوا عن النفقة في سبيل الله، وقال النعمان بن بشير: كان الرجل يذنب الذنب فيقول: لا يغفر الله لي، فنزلت.
وفي حديث طويل تضمن أن رجلا من المسلمين حمل على صف الروم، ودخل فيهم وخرج، فقال الناس: ألقى بنفسه إلى التهلكة، فقال أبو أيوب الأنصاري: تأولتم الآية على غير تأويلها، وما أنزلت هذه الآية إلا فينا معشر الأنصار، لما أعز الله دينه قلنا: لو أقمنا نصلح ما ضاع من أموالنا، فنزلت.
وفي تفسير التهلكة أقوال.
أحدها: ترك الجهاد والإخلاد إلى الراحة وإصلاح الأموال، قاله أبو أيوب.
الثاني: ترك النفقة في سبيل الله خوف العيلة، قاله حذيفة، وأبن عباس، والحسن، وعطاء، وعكرمة، وابن جبير.
الثالث: التقحم في العدو بلا نكاية، قاله أبو القاسم البلخي.
الرابع: التصدق بالخبيث، قاله عكرمة.
الخامس: الإسراف بإنفاق كل المال، قال تعالى * (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا) * * (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط) * قاله أبو علي.
السادس: الانهماك في المعاصي ليأسه من قبول توبته، قاله البراء، وعبيدة السلماني.
السابع: القنوط من التوبة، قاله قوم.
الثامن: السفر للجهاد بغير زاد، قاله زيد بن أسلم، وقد كان فعل ذلك قوم فأداهم إلى الانقطاع في الطريق، أو إلى كونهم عالة على الناس.
التاسع: إحباط الثواب أما بالمن أو الرياء والسمعة، كقوله: * (ولا
(٧٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 ... » »»