تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٧٤
الآية: الأولى بالجهاد بشرط إقدام الكفار على المقاتلة، وفي هذه الآية زاد في التكليف. فأمر بالجهاد معهم سواء قاتلوا أم لم يقاتلوا، واستثنى منه المقاتلة عند المسجد الحرام. انتهى. وليس كما قال: إنه زاد في التكليف فأمر بالجهاد سواء قاتلوا أم لم يقاتلوا، لأن الضمير عائد على: الذين يقاتلونكم، فالوصف باق إذ المعنى: واقتلوا الذين يقاتلونكم حيث ثقفتموهم، فليس أمرا بالجهاد سواء قاتلوا أم لم يقاتلوا.
قال ابن إسحاق: نزلت هذه الآية في شأن عمرو بن الحضرمي حين قتله وافد بن عبد الله التميمي، وذلك في سرية عبد الله بن جحش.
* (وأخرجوهم من حيث أخرجوكم) * أي: من المكان الذي أخرجوكم منه، يعني مكة، وهو أمر بالإخراج أمر تمكين، فكأنه وعد من الله بفتح مكة، وقد أنجز ما وعد، وقد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم) يوم فتح مكة بمن لم يسلم معهم، و: من حيث، متعلق بقوله: وأخرجوهم، وقد تصرف في: حيث، بدخول حرف الجر عليها: كمن، والباء، وفي، وبإضافة لدى إليها.
وضمير النصب في: أخرجوكم، عائد على المأمورين بالقتل، والإخراج، وهو في الحقيقة عائد على بعضهم، جعل إخراج بعضهم، وهو أجلهم قدرا رسول الله صلى الله عليه وسلم) والمهاجرون، إخراجا لكلهم.
* (والفتنة أشد من القتل) * في الفتنة هنا أقوال.
أحدها: الرجوع إلى الكفر أشد من أن يقتل المؤمن، قاله مجاهد. وكانوا قد عذبوا نفرا من المؤمنين ليرجعوا إلى الكفر، فعصمهم الله. والكفر بالله يقتضي العذاب دائما، والقتل ليس كذلك، وكان بعض الصحابة قتل في الشهر الحرام، فاستعظم المسلمون ذلك.
الثاني: الشرك، أي: شركهم بالله أشد حرما من القتل الذي عيروكم به في شأن ابن الحضرمي.
الثالث: هتك حرمات الله منهم أشد من القتل الذي أبيح لكم أيها المؤمنون أن توقعوه بهم.
الرابع: عذاب الآخرة لهم أشد من قتلهم المسلمين في الحرم ومنه: * (ذوقوا فتنتكم) * * (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات) * أي: عذبوهم.
الخامس: الإخراج من الوطن لما فيه من مفارقة المألوف والأحباب، وتنغيص العيش دائما، ومنه قول الشاعر:
* لموت بحد السيف أهون موقعا * على النفس من قتل بحد فراق * السادس: أن يراد فتنتهم إياكم بصدكم عن المسجد الحرام، أشد من قتلكم إياهم في الحرم، أو من قتلهم إياكم، إن قتلوكم، فلا تبالوا بقتالهم، قاله الزمخشري، وهو راجع لمعنى القول الثالث.
السابع: تعذيبهم المسلمين ليرتدوا، قاله الكسائي.
وأصل الفتنة عرض الذهب على النار لاستخلاصه من الغش، ثم صار يستعمل في الامتحان، وإطلاقه على ما فسر به في هذه الأقوال شائع، والفتنة والقتل مصدران لم يذكر فاعلهما، ولا مفعولهما، وإنما أقر أن ماهية الفتنة أشد من القتل، فكل مكان تتحقق فيه هذه النسبة كان داخلا في عموم، هذه الأخبار سواء كان المصدر فاعله أو مفعوله: المؤمنون أم الكافرون، وتعيين نوع ما من أفراد العموم يحتاج إلى دليل.
* (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه) * هو أن يبدأهم بالقتال في هذا الموطن حتى يقع ذلك منهم فيه، قال مجاهد: وهذه الآية محكمة لا يجوز قتال أحد في المسجد الحرام إلا بعد أن يقاتل. وبه قال طاووس، وأبو حنيفة؛ وقال الربيع: منسوخة بقوله: * (وقاتلوهم حتى لا تكون * فتناه) * وقال قتادة بقوله: * (فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين) * والنسخ قول الجمهور، وقد تقدم طرف من الكلام في هذا النسخ، في هذه الآية. وقرأ حمزة، والكسائي والأعمش: ولا تقتلوهم، وكذلك حتى يقتلوكم فإن قتلوكم، من القتل، فيحتمل المجاز في الفعل، أي: ولا تأخذوا في قتلهم حتى يأخذوا في قتلكم، ويحتمل المجاز في المفعول، أي: ولا تقتلوا بعضهم حتى يقتلوا بعضكم، فإن قتلوا بعضكم، يقال: قتلنا بنو فلان، يريد قتل بعضنا وقال:
(٧٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 ... » »»