تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٧٧
فلا عدوان إلا على من لم ينته، وهو الظالم.
قال الزمخشري: فلا تعتدوا على المنتهين لأن مقاتلة المنتهين عدوان وظلم، فوضع قوله: إلا على الظالمين، موضع: على المنتهين إنتهى كلامه. وهذا الذي قاله لا يصح إلا على تفسير المعنى، وأما على تفسير الإعراب فلا يصح، لأن: على المنتهين، ليس مرادفا لقوله: إلا على الظالمين، لأن نفي العدوان عن المنتهين لا يدل على إثباته على الظالمين إلا بالمفهوم مفهوم الصفة. وفي التركيب القرآني يدل على إثباته على الظالمين بالمنطوق المحصور بالنفي، وإلا وفرق بين الدلالتين، ويظهر من كلامه أنه أراد تفسير الإعراب.
ألا ترى قوله: فوضع قوله: إلا على الظالمين، موضع: على المنتهين؟ وهذا الوضع إنما يكون في تفسير الإعراب، وليس كذلك لما بيناه من الفرق بين الدلالتين، ألا ترى فرق ما بين قولك: ما أكرم الجاهل وما أكرم إلا العالم؟ وإلا على الظالمين، استثناء مفرغ من الأخبار على الظالمين في موضع رفع على أنه خبر لا على مذهب الأخفش، أو على أنه خبر للمبتدأ الذي هو مجموع لا عدوان، على مذهب سيبويه. وقد تقدم التنبيه على ذلك، وجاء: بعلى، تنبيها على استيلاء الجزاء عليهم واستعلائه.
وقيل: معنى لا عدوان، لا سبيل، كقوله: * (أيما الاجلين قضيت فلا عدوان على) * أي لا سبيل علي، وهو مجاز عن التسليط والتعرض، وهو راجع لمعنى جزاء الظالم الذي شرحنا به العدوان.
ورابط الجزاء بالشرط إما بتقدير حذف أي: إلا على الظالمين منهم، أو بالاندراج في عموم الظالمين، فكان الربط بالعموم.
* (الشهر الحرام بالشهر * الحرم * والحرمات قصاص) * قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، ومقسم، والسدي، والربيع، والضحاك، وغيرهم: نزلت في عمرة القضاء عام الحديبية، وكان المشركون قاتلوهم ذلك العام في الشهر الحرام، وهو ذو القعدة، فقيل لهم عند خروجهم لعمرة القضاء وكراهتهم القتال، وذلك في ذي القعدة: * (الشهر الحرام بالشهر الحرام) * أي: هتكه بهتكه، تهتكون حرمته عليهم كما هتكوا حرمته عليكم.
وقال الحسن: سأل الكفار رسول الله صلى الله عليه وسلم): هل تقاتل في الشهر الحرام؟ فأخبرهم أنه لا يقاتل فيه، فهموا بالهجوم عليه وقتل من معه حين طمعوا أنه لا يقاتل، فنزلت.
والشهر، مبتدأ وخبره الجار والمجرور وبعده، ولا يصح من حيث اللفظ أن يكون خبرا، فلا بد من حذف التقدير: انتهاك حرمة الشهر الحرام، كائن بانتهاك حرمة الشهر الحرام؛ والألف واللام في الشهر، في اللفظ هي للعهد، فالشهر الأول هو ذو القعدة من سنة سبع في عمرة القضاء، والشهر الثاني هو من سنة ست عام الحديبية * (والحرمات قصاص) * والألف واللام للعهد في الحرمات، أي: حرمة الشهر وحرمة المحرمين حين صددتم بحرمة البلد، والشهر، والقطان، حين دخلتم. وهذا التفسير على السبب المنقول عن ابن عباس ومن معه، وأما على السبب المنقول عن الحسن فتكون الألف واللام للعموم في النفس والمال والعرض، أي: وكل حرمة يجري فيها القصاص، فيدخل في ذلك تلك الحرمات السابقة وغيرها، وقيل: * (والحرمات قصاص) * جملة مقطوعة مما قبلها ليست في أمر الحج والعمرة، بل هو ابتداء أمر كان في أول الإسلام، أي: من انتهك حرمتك نلت منه مثل ما اعتدى عليك به، ثم نسخ ذلك بالقتال.
وقالت طائفة: ما كان من تعد في مال أو جرح لم ينسخ، وله أن يتعدى عليه من ذلك بمثل ما تعدى عليه، ويخفى ذلك إذا أمكنه دون الحاكم ولا يأثم بذلك، وبه قال الشافعي، وهي رواية في مذهب مالك.
وقالت طائفة، منهم مالك: القصاص وقف على الحكام فلا يستوفيه إلاهم.
وقرأ الحسن * (والحرمات) * باسكان الراء على الأصل، إذ هو جمع حرمة، والضم في
(٧٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 ... » »»