تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٧٣
في الكفار لإظهار دين الله وإعلاء كلمته، وأكثر علماء التفسير على أنها أول آية نزلت في الأمر بالقتال، أمر فيها بقتال من قاتل، والكف عن من كف، فهي ناسخة لآيات الموادعة.
وروي عن أبي بكر أن أول آية نزلت في القتال * (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا) * قال الراغب: أمر أولا بالرفق والاقتصار على الوعظ والمجادلة الحسنة، ثم أذن له في القتال، ثم أمر بقتال من يأبى الحق بالحرب، وذلك كان أمرا بعد أمر على حسب مقتضى السياسة انتهى.
وقيل: إن هذه الآية منسوخة بالأمر بقتال المشركين، وقيل: هي محكمة، وفي (ري الظمآن) هي منسوخة بقوله: * (وقاتلوهم حتى لا تكون * فتناه) * وضعف نسخها بقوله: * (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام) * لأنه من باب التخصيص لا من باب النسخ، ونسخ: * (ولا تقاتلوهم) * بقوله: * (وقاتلوهم) * بأنه لا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم، وهذا الحكم لم ينسخ، بل هو باق، وبأنه يبعد أن يجمع بين آيات متوالية يكون كل واحدة منها ناسخة للأخرى، وأبعد من ذهب إلى أن قوله: وقاتلوا، ليس أمرا بقتال، وإنما أراد بالمقاتلة المخاصمة والمجادلة والتشدد في الدين، وجعل ذلك قتالا، لأنه يؤول إلى القتال غالبا، تسمية للشيء باسم ما يؤول إليه. والآية على هذا محكمة.
هذا القول خلاف الظاهر، والعدول عن الظاهر لغير مانع لا يناسب: في سبيل الله، السبيل هو الطريق، واستعير لدين الله وشرائعه، فإن المتبع ذلك يصل به إلى بغيته الدينية والدنيوية، فشبه بالطريق الموصل الإنسان إلى ما يقصده، وهذا من استعارة الإجرام للمعاني، ويتعلق: في سبيل الله، بقوله: وقاتلوا، وهو ظرف مجازي، لأنه لما وقع القتال بسببب نصرة الدين صار كأنه وقع فيه، وهو على حذف مضاف التقدير: في نصرة دين الله، ويحتمل أن يكون من باب التضمين كأنه قيل: وبالغوا بالقتال في نصرة سبيل الله، فضمن: قاتلوا، معنى المبالعة في القتال.
* (الذين يقاتلونكم) * ظاهره: من يناجزكم القتال ابتداء، أو دفعا عن الحق، وقيل: من له أهلية القتال سوى من جنح للسلم فيخرج من هذا: النسوان، والصبيان، والرهبان. وقيل: من له قدرة على القتال، وتسمية من له الأهلية والقدرة مقاتلا مجاز، وأبعد منه مجازا من ذهب إلى أن المعنى: الذين يخالفونكم، فجعل المخالفة قتالا، لأنه يؤول إلى القتال، فيكون أمرا بقتال من خالف، سواء قاتل أم لم يقاتل، وقدم المجرور على المفعول الصريح لأنه الأهم، وهو أن يكون القتال بسبب إظهار شريعة الإسلام، ألا ترى الاقتصار عليه في نحو قوله: * (وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم) * * (ولا تعتدوا) * نهي عام في جميع مجاوزة كل حد، حدة الله تعالى، فدخل فيه الاعتداء في القتال بما لا يجوز، وقيل: المعنى: ولا تعتدوا في قتل النساء، والصبيان، والرهبان، والأطفال، ومن يجري مجراهم. قاله ابن عباس، وعمر بن عبد العزيز، ومجاهد. ورجحه جماعة من المفسرين: كالنحاس وغيره، لأن المفاعلة غالبا لا تكون إلا من اثنين، والقتال لا يكون من هؤلاء. ولأن النهي ورد في ذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم) عن قتل النساء، والصبيان، وعن المثلة، وفي وصاية أبي بكر ليزيد بن أبي سفيان النهي عن قتل هؤلاء، والشيخ الفاني، وعن تخريب العامر، وذبح البقرة والشاة لغير مأكل، وإفساد شجرة مثمرة بحرق أو غيره.
وقيل: ولا تعتدوا في قتال من بذل الجزية. قاله ابن بحر، وقيل: في ترك القتال، وقيل: بالبداءة والمفاجأة قبل بلوغ الدعوة. وقيل: بالمثلة، وقيل: بابتدائهم في الحرم في الشهر الحرام، وقيل: في القتال لغير وجه الله، كالحمية وكسب الذكر.
* (إن الله لا يحب المعتدين) *. هذا كالتعليل لما قبله كقوله: أكرم زيدا إن عمرا يكرمه. وحقيقة المحبة: وهي ميل النفس إلى ما تؤثره مستحيلة في حق الله تعالى، ولا واسطة بين المحبة والبغضاء بالنسبة إلى الله تعالى، لأنهما مجازان عن إرادة ثوابه، وإرادة عقابه، أو عن متعلق الإرادة من الثواب والعقاب. وذلك بخلاف محبة الانسان وبغضه، فإن بينهما واسطة، وهي عدمهما، فلذلك لا يرد على نفي محبة الله تعالى أن يقال: لا يلزم من نفي المحبة وجود البغض، بل ذلك لازم لما بيناه من عدم الواسطة بينهما في حقه تعالى.
* (واقتلوهم حيث ثقفتموهم) * ضمير المفعول عائد على: الذين يقاتلونكم، وهذا أمر بقتلهم، و: حيث ثقفتموهم، عام في كل مكان حل أو حرم، ويلزم منه عموم الأزمان، في شهر الحرام وفي غيره، وفي (المنتخب) أمر في
(٧٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 ... » »»