تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٧٩
تبطلوا أعمالكم) *.
وهذه الأقوال كلها تحتمل هذه الآية. والظاهر أنهم نهوا عن كل ما يؤول بهم إلى الهلاك في غير طاعة الله تعالى، فإن الجهاد في سبيل الله مفض إلى الهلاك، وهو القتل، ولم ينه عنه، بل هو أمر مطلوب موعود عليه بالجنة، وهو من أفضل الأعمال المتقرب بها إلى الله تعالى، وقد رد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وهو: أن يقتل في سبيل الله ثم يحيا، فيقاتل فيقتل، أو كما جاء في الحديث؛ ويقال: ألقى بيده في كذا، وإلى كذا، إذا استسلم، لأن المستسلم في القتال يلقي سلاحه بيديه، وكذا على كل عاجز في أي فعل كان، ومنه قول عبد المطلب: والله إن القاءنا بأيدينا للموت لعجز.
وألقى يتعدى بنفسه، كما قال تعالى: * (فألقى موسى عصاه) * وقال الشاعر:
* حتى إذا ألقت يدا في كافر * وأجن عورات الثغور ظلامها وجاء مستعملا بالباء لهذه الآية، وكقول الشاعر:
وألقى بكفيه الفتى إستكانة من الجوع وهنا ما يمر وما يحلى * وإذا كان ألقى على هذين الاستعمالين، فقال أبو عبيدة وقوم: الباء زائدة، التقدير: ولا تلقوا أيديكم إلى التهلكة، ويكون عبر باليد عن النفس، كأنه قيل: ولا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة. وقد زيدت الباء في المفعول كقوله.
سود المحاجر لا يقرأن بالسور أي: لا يقرأن السور، إلا أن زيادة الباء في المفعول لا ينقاس، وقيل: مفعول ألقى محذوف، التقدير: ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة، وتتعلق الباء بتلقوا، أو تكون الباء لسبب، كما تقول: لا تفسد حالك برأيك.
والذي تختاره في هذا أن المفعول في المعنى هو: بأيديكم، لكنه ضمن: ألقى، معنى ما يتعدى بالباء، فعداه بها، كأنه قيل: ولا تفضوا بأيديكم إلى التهلكة. كقوله: أفضيت بجنبي إلى الأرض أي: طرحت جنبي على الأرض، ويكون إذ ذاك قد عبر عن الأنفس بالأيدي، لأن بها الحركة والبطش والامتناع، فكأنه يقول: إن الشيء الذي من شأنه أن يمتنع به من الهلاك، ولا يهمل ما وضع له، ويفضي به إلى الهلاك. وتقدمت معاني: أفعل، في أول البقرة، وهي أربعة وعشرون معنى، وعرضتها على لفظ: ألقى، فوجدت أقرب ما يقال فيه: أن: أفعل، للجعل على ما استقرأه التصريفيون تنقسم إلى ثلاثة أقسام.
القسم الأول: أن تجعله كقولك: أخرجته، أي: جعلته يخرج، فتكون الهمزة في هذا النوع للتعدية.
القسم الثاني: أن تجعله على صفة، كقوله: أطردته، فالهمزة فيه ليست للتعدية، لأن الفعل كان متعديا دونها، وإنما المعنى: جعلته طريدا.
والقسم الثالث: أن تجعله صاحب شيء بوجه ما، فمن ذلك: أشفيت فلانا، جعلت له دواء يستشفى به، وأسقيته: جعلته ذا ماء يسقى به ما يحتاج إلى السقي. ومن هذا النوع: أقبرته، وأنعلته، وأركبته، وأخدمته، وأعبدته: جعلت له قبرا، ونعلا، ومركوبا، وخادما، وعبدا.
فأما: ألقى، فإنها من القسم الثاني، فمعنى: ألقيت الشيء: جعلته لقي، واللقي فعل بمعنى مفعول، كمان أن الطريد فعيل بمعنى مفعول، فكأنه قيل: لا تجعلوا أنفسكم لقى إلى التهلكة فتهلك.
وقد حام الزمخشري
(٧٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 ... » »»