منهم القتال الذي إذا بدؤوا به كان فتنة على المؤمنين لما يخافون من أنواع المضار.
و: حتى، هنا للغاية، أو للتعليل، وإذا فسرت الفتنة بالكفر، والكفر لا يلزم زواله بالقتال، فكيف غيي الأمر بالقتال بزواله؟.
والجواب: أن ذلك على حكم الغالب، والواقع، وذلك أن من قتل فلقد انقطع كفره وزال، ومن عاش خاف من الثبات على كفره، فأسلم، أو يكون المعنى: وقاتلوهم قصدا منكم إلى زوال الكفر، لأن الواجب في قتال الكفار أن يكون القصد زوال الكفر، ولذلك إذا ظن أنه يقلع عن الكفر بغير القتال وجب عليه العدول عنه.
* (ويكون الدين لله) * الدين هنا: الطاعة، أي: يكون الانقياد خالصا لله، وقيل: الدين هنا السجود والخضوع لله وحده، فلا يسجد لغيره، وغيي هنا الأمر بالقتال بشيئين: أحدهما: انتفاء الفتنة، والثاني: ثبوت الدين لله، وهو عطف مثبت على منفي، وهما في معنى واحدة ومتلازمان، لأنه إذا انتفى الشرك بالله كان تعالى هو المعبود المطاع، وعلى تفسير أبي مسلم في الفتنة يكون قد غيي بأمرين مختلفين: أحدهما: انتفاء القتال في الحرم، والثاني: خلوص الدين لله تعالى.
قيل وجاء في الأنفال: * (ويكون الدين كله لله) * ولم يجئ هنا: كله، لأن آية الأنفال في الكفار عموما، وهنا في مشركي مكة، فناسب هناك التعميم، ولم يحتج هنا إليه.
قيل: وهذا لا يتوجه إلا على قول من جعل الضمير في: وقاتلوهم، عائدا على أهل مكة على أحد القولين، وراجع رجل ابن عمر في الخروج في فتنة ابن الزبير مستدلا عليه بقوله: * (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) * فعارضه بقوله: * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا) * فقال: ألم يقل: * (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) *؟ فأجابه ابن عمر بأنا فعلنا ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، إذ كان الإسلام قليلا، وكان الرجل يفتن عن دينه بقتله أو تعذيبه، وكثر الإسلام فلم تكن فتنة، وكان الدين لله، وأنتم تقاتلون حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله.
* (فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين) *. متعلق الانتهاء محذوف، التقدير: عن الشرك بالدخول في الاسلام، أو عن القتال. وأذعنوا إلى أداء الجزية فيمن يشرع ذلك فيهم، أو: عن الشرك وتعذيب المسلمين وفتنتهم ليرجعوا عن دينهم، وذلك على الاختلاف في الضمير، إذ هو عام في الكفار، أو خاص بكفار مكة.
والعدوان مصدر عدا، بمعنى: اعتدى، وهو نفي عام، أي: لا يؤخذ فرد فرد من أنواعه البتة إلا على من ظلم، ويراد بالعدوان الذي هو الظلم الجزاء. سماه عدوانا من حيث هو جزاء عدوان، والعقوبة تسمى باسم الذنب، وذلك على المقابلة، كقوله: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * * (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل) * * (ومكروا ومكر الله) * وقال الشاعر:
* جزينا ذوي العدوان بالأمس فرضهم * قصاصا سواء حذوك النعل بالنعل * وقال الرماني، إنما استعمل لفظ العدوان في الجزاء من غير مزاوجة اللفظ، لأن مزاوجة اللفظ مزاوجة المعنى، كأنه يقول: انتهوا عن العدوان فلا عدوان إلا على الظالمين إنتهى كلامه. وهذا النفي العام يراد به النهي، أي: فلا تعتدوا، ذلك على سبيل المبالغة إذا أرادوا المبالغة في ترك الشيء عدلوا فيه عن النهي إلى النفي المحض العام، وصار ألزم في المنع، إذ صار من الأشياء التي لا تقع أصلا، ولا يصح حمل ذلك على النفي الصحيح أصلا لوجود العدوان على غير الظالم. فكأنه يكون إخبارا غير مطابق، وهو لا يجوز على الله تعالى.
وفسر الظالمون هنا بمن بدأ بالقتال، وقيل: من بقي على كفر وفتنة، قال عكرمة، وقتادة: الظالم هنا من أبى أن يقول لا إله إلا الله.
وقال الأخفش المعنى: فإن انتهى بعضهم