تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٨٣
الحج وغيره، وإنما التقصير سنتهن في الحج.
وخرج أبو داود، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم): (ليس على النساء حلق إنما عليهن التقصير). وأجمع أهل العلم على القول به، واختلفوا في مقدار ما يقصر من شعرها على تقادير كثيرة ذكرت في الفقه، ولم تتعرض هذه الآية للتقصير فنتعرض نحن له هنا، وإنما استطردنا له من قوله: * (ولا تحلقوا) *.
وظاهر النهي: الحظر ولتحريم حتى يبلغ الهدي محله، فلو نسي فحلق قبل النحر، فقال أبو حنيفة، وابن الماجشون: هو كالعامد وقال ابن القاسم: لا شيء عليه أو تعمد، فقال أبو حنيفة، ومالك: لا يجوز. وقال الشافعي: يجوز. قالوا: وهو مخالف لظاهر الآية.
ودلت الآية على أن من النسك في الحج حلق الرأس، فيدل ذلك على جوازه في غير الحج، خلافا المن قال: إن حلق الرأس في غير الحج مثلة، لأنه لو كان مثلة لما جاز، لا في الحج ولا غيره.
وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) حلق رؤوس بني جعفر بعد أن أتاه خبر قتله بثلاثة أيام، وكان علي يحلق، وقال أبو عمرو بن عبد البر، أجمع العلماء على إباحة الحلق، وظاهر عموم: * (ولا تحلقوا) *، أو خصوصه بالمحصرين أن الحلق في حقهم نسك، وهو قول مالك، وأبو يوسف.
وقال أبو حنيفة، ومحمد: لا حلق على المحصر والقولان عن الشافعي.
* (حتى يبلغ الهدى محله) * حيث أحصر من حل أو حرم، قاله عمر، والمسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم، أو: المحرم، قاله علي، وابن مسعود، وابن عباس، وعطاء، والحسن، ومجاهد، وتفسيرهم يدل على أن المحل هنا المكان، ولم يقرأ إلا بكسر الحاء. فيما علمنا، ويجوز الفتح: أعني إذا كان يراد به المكان، وفرق الكسائي هنا، فقال: الكسر هو الإحلال من الإحرام، والفتح هو موضع الحلول من الإحصار، وقد تقدم طرف من القول في محل الهدي، ولم تتعرض الآية لما على المحصر في الحج إذا تحلل بالهدي، فعن النسيء عليه حجة، وقال الحسن، وابن سيرين، وإبراهيم، وعلقمة، والقاسم، وابن مسعود فيما روى عنه، مجاهد، وابن عباس، فيما روى عنه ابن جبير: عليه حجة وعمرة، فإن جمع بينهما ما في أشهر الحج فعليه دم وهو متمتع، وإن لم يجمعهما في أشهر الحج فلا دم عليه، فإن كان المحصر بمرض أو عدو، محرما بحج تطوع، أو بعمرة تطوع، وحل بالهدي فعليه القضاء عند أبي حنيفة، وقال مالك، والشافعي: لا قضاء على من أحصر بعدو لا في حج ولا في عمرة.
* (فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه) * سبب النزول حديث كعب بن عجرة المشهور، وهو أنه صلى الله عليه وسلم)، رآه والقمل يتناثر من رأسه، وقيل: رآه وقد قرح رأسه، ولما تقدم النهي عن الحلق إلى الغاية التي هي بلوغ الهدي كان ذلك النهي شاملا، فخص بمن ليس مريضا ولا به أذى من رأسه، أما هذان فأبيح لهما الحلق، وثم محذوف يصح به الكلام، التقدير: فمن كان منكم مريضا ففعل ما بينا في المحرم من حلق أو غيره، أو به أذى من رأسه فحلق، وظاهر النهي العموم.
وقال بعض أهل العلم: هو مختص بالمحصر، لأن جواز الحلق قبل بلوغ الهدي محله لا يجوز، فربما لحقه مرض أو أذى في رأسه إن صبر، فأذن له في زوال ذلك بشرط الفدية، وأكثر العلماء على أنه على العموم، ويدل عليه قصة ابن عجرة.
ومنكم، متعلق بمحذوف وهو في موضع الحال، لأنه قبل تقدمه كان صفة: لمريضا، فلما تقدم انتصب على الحال. ومن، هنا للتبعيض. وأجاز أبو البقاء أن يكون متعلقا: بمريضا، وهو لا يكاد يعقل، وأو به أذى من رأسه، يجوز أن يكون من باب عطف المفردات، فيكون معطوفا على قوله: مريضا، ويرتفع: أذى، على الفاعلية بالمجرور الذي هو به، التقدير: أو كائنا به أذى من رأسه، ومن باب عطف الجملة على المفرد لكون تلك الجملة في موضع المفرد، فتكون تلك الجملة معطوفة على قوله: مريضا، وهي في
(٨٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 ... » »»