تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٢٤٥
عفوهن عن النصف ليس من جنس أخذهن، والمعنى إلا أن يتركن النصف الذي وجب لهن عند الزوج. إنتهى.
وقيل: وليس على ما ذهبوا إليه، بل هو استثناء متصل، لكنه من الأحوال، لأن قوله: فنصف ما فرضتم، معناه: عليكم نصف ما فرضتم في كل حال إلا في حال عفوهن عنكم، فلا يجب، وإن كان التقدير: فلهن نصف فالواجب ما فرضتم، فكذلك أيضا وكونه استثناء من الأحوال ظاهر، ونظيره: * (لتأتننى به إلا أن يحاط بكم) * إلا أن سيبويه منع أن تقع أن وصلتها حالا، فعلى قول سيبويه يكون: * (إلا أن يعفون) * استثناء منقطعا.
وقرأ الحسن: إلا أن يعفونه، والهاء ضمير النصف، والأصل: يعفون عنه، أي: عن النصف، فلا يأخذنه. وقال بعضهم: الهاء للاستراحة، كما تأول ذلك بعضهم في قول الشاعر:
* هم الفاعلون الخير والآمرونه * على مدد الأيام ما فعل البر وحركت تشبيها بهاء الضمير. وهو توجيه ضعيف.
* وقرأ ابن أبي إسحاق: إلا أن تعفون، بالتاء بثنتين من أعلاها، وذلك على سبيل الالتفات، إذ كان ضميرهن غائبا في قوله: لهن، وما قبله فالتفت إليهن وخاطبهن، وفي خطابه لهن، وجعل ذلك عفوا ما يدل على ندب ذلك واستحبابه.
وفرق الزمخشري بين قولك: الرجال يعفون، والنساء يعفون، بأن الواو في الأول ضمير، والنون علامة الرفع، والوا في الثاني لام الفعل والنون ضميرهن، والفعل مبني لا أثر في لفظه للعامل. إنتهى. فرقه، وهذا من النحو الجلي الذي يدرك بأدنى قراءة في هذا العلم، ونقصه أن يبين أن لازم الفعل في الرجال: يعفون، حذفت لالتقائها ساكنة مع واو الضمير، وأن يذكر خلافا في نحو النساء يعفون، فذهب ابن درستويه من المتقدمين، والسهيلي من المتأخرين، إلى أن الفعل إذا اتصلت به نون الإناث معرب لا مبني، وينسب ذلك إلى كلام سيبويه. والكلام على هذه المسألة موضح في علم النحو.
وظاهر قوله: * (إلا أن يعفون) * العموم في كل مطلقة قبل المسيس، وقد فرض لها، فلها أن تعفو. قالوا: وأريد هنا بالعموم الخصوص، وكل امرأة تملك أمر نفسها لها أن تعفو، فأما من كانت في حجاب أو وصي فلا يجوز لها العفو، وأما البكر التي لاولي لها، فقال ابن عباس، وجماعة من التابعين والفقهاء: يجوز ذلك لها، وحكى سحنون، عن ابن القاسم: أنه لا يجوز ذلك لها.
* (أو يعفوا الذى بيده عقدة النكاح) * وهو: الزوج، قاله علي، وابن عباس وجبير بن مطعم، وشريح رجع إليه، وابن جبير، ومجاهد، وجابر بن زيد، والضحاك، ومحمد بن كعب القرظي، والربيع بن أنس، وابن بشرمة، وأبو حنيفة، وذكر ذلك عن الشافعي.
وعفوه أن يعطيها المهر كله، وروي أن جبير بن مطعم تزوج وطلق قبل الدخول، فأكمل الصداق، وقال: أنا أحق بالعفو.
وسمي ذلك عفوا إما على طريق المشاكلة، لأن قبله * (إلا أن يعفون) * أو لأن من عادتهم أن كانوا يسوقون المهر عند التزوج، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم) لعلي كرم الله وجهه: (فأين درعك الحطيمة) يعني أن يصدقها فاطمة صلى الله على رسول الله وعليها، فسمى ترك أخذهم النصف مما ساقوه عفوا عنه.
وروي عن ابن عباس، والحسن، وعلقمة، وطاووس، والشعبي، وإبراهيم، ومجاهد، وشريح، وأبي صالح، وعكرمة، والزهري، ومالك، والشافعي، وغيرهم: أنه الولي الذي المرأة في حجره، فهو: الأب في ابنته التي لم تملك أمرها، والسيد في أمته؛ وجوز شريح عفو الأخ عن نصف المهر، وقال: أنا أعفو عن مهور بني مرة وإن كرهن، وقال عكرمة: يجوز أن يعفو عما كان أو أخا أو أبا، وإن كرهت، ويكون دخول أو: هنا للتنويع في العفو، * (إلا أن يعفون) * إن كن ممن يصح العفو منهن، أو يعفو وليهن، إن كن لا يصح العفو منهن، أو للتخيير، أي: هن خيرات بين أن يعفون، أو يعفو وليهن.
ورجح كونه الولي بأن الزوج المطلق يبعد فيه أن يقال بيده عقدة النكاح، وأن يجعل تكميله الصداق عفوا، وأن يبهم أمره حتى يبقى كالملبس، وهو قد أوضح بالخطاب في قوله: * (فنصف ما فرضتم) * فلو جاء على مثل هذا التوضيح لكان: إلا أن يعفون أو تعفوا أنتم ولا تنسوا الفضل بينكم، فدل هذا على أنها درجة ثالثة، إذ ذكر الأزواج، ثم الزوجات، ثم
(٢٤٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 240 241 242 243 244 245 246 247 248 249 250 ... » »»