تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٢٤٧
المذكر، قاله ابن عباس. وقال ابن عطية: خاطب تعالى الجميع تأدبا بقوله: * (وأن تعفوا أقرب للتقوى) * أي: يا جميع الناس. إنتهى كلامه.
والذي يظهر أنه خطاب للأزواج فقط، وقاله الشعبي، إذ هم الخاطبون في صدر الآية، فيكون ذلك من الالتفات، إذ رجع من ضمير الغائب، وهو الذي بيده عقدة النكاح على ما اخترناه في تفسيره، إلى الخطاب الذي استفتح به صدر الآية، وكون عفو الزوج أقرب للتقوى من حيث إنه كسر قلب مطلقته، فيجبرها بدفع جميع الصداق لها، إذ كان قد فاتها منه صحبته، فلا يفوتها منه نحلته، إذ لا شيء أصعب على النساء من الطلاق، فإذا بذل لها جميع المهر لم تيأس من ردها إليه، واستشعرت من نفسها أنه مرغوب فيها، فانجبرت بذلك.
وقرأ الشعبي، وأبو نهيك: وأن يعفوا، بالياء باثنيتين من تحتها، جعله غائبا، وجمع على معنى: الذي بيده عقدة النكاح، لأنه للجنس لا يراد به واحد، وقيل: هذه القراءة تؤيد أن العفو مسند للأزواج، قيل: والعفوا أقرب لا تقاء كل واحد منهما ظلم صاحبه. وقيل: لاتقاء معاصي الله.
و: أقرب، يتعدى باللام كهذه، ويتعدى بإلى كقوله: * (ونحن أقرب إليه) * ولا يقال: إن اللام بمعنى إلى، ولا إن اللام للتعليل، بل على سبيل التعدية لمعنى المفعول به المتوصل إليه بحرف الجر، فمعنى اللام ومعنى إلى متقاربان من حيث التعدية، وقد قيل: بأن اللام بمعنى إلى، فيكون ذلك من تضمين الحروف، ولا يقول به البصريون. وقيل أيضا: إن اللام للتعليل، فيدل على علة ازدياد قرب العفو على تركه، والمفضل عليه في القرب محذوف، وحسن ذلك كون أفعل التفضيل وقع خبرا للمبتدأ، والتقدير: والعفو منكم أقرب للتقوى من ترك العفو.
* (ولا تنسوا الفضل بينكم) * الخطاب فيه من الخلاف ما في قوله: * (وأن تعفوا) *.
والنسيان هنا الترك مثل: * (نسوا الله فنسيهم) * والفضل: هو فعل ما ليس بواجب من البر، فهو من الزوج تكميل المهر، ومن الزوجة ترك شطره الذي لها، قاله مجاهد، وإن كان المراد به الزوج فهو تكميل المهر.
ودخل جبير بن مطعم على سعد بن أبي وقاص، فعرض عليه بنتا له، فتزوجها، فلما خرج طلقها وبعث إليها بالصداق كاملا، فقيل له: لم تزوجتها؟ فقال: عرضها علي فكرهت رده، قيل: فلم بعثت بالصداق كاملا؟ قال: فأين الفضل؟.
وقرأ علي، ومجاهد، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة: ولا تناسوا الفضل. قال ابن عطية وهي قراءة متمكنة المعنى، لأنه موضع تناس لا نسيان إلا على التشبيه. إنتهى.
وقرأ يحيى بن يعمر: ولا تنسوا الفضل، بكسر الواو على أصل التقاء الساكنين، تشبيها للواو التي هي ضمير بواو ولو في قوله تعالى: * (لو استطعنا) * كما شبهوا: واو: لو، بواو الضمير، فضموها، قرأ * (لو استطعنا) * بضم الواو.
وانتصاب: بينكم، بالفعل المنهي عنه و: بين، مشعر بالتخلل والتعارف، كقوله: * (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) * فهو أبلغ من أن يأتي النهي عن شيء لا يكون بينهم، لأن الفعل المنهي عنه لو وقع لكان ذلك مشتهرا بينهم، قد تواطؤوا عليه وعلموا به، لأن ما تخلل أقواما يكون معروفا عندهم.
* (إن الله بما تعملون بصير) * ختم هذه الآية بهذه الصفة الدالة على المبصرات، لأن ما تقدمه من العفو من المطلقات والمطلقين، وهو أن يدفع شطر ما قبضن أو يكملون لهن الصداق، هو مشاهد مرئي، فناسب ذلك المجيء بالصفة المتعلقة بالمبصرات.
ولما كان آخر قوله: * (والذين يتوفون منكم) * الآية قوله: * (فلا جناح عليكم فيما فعلن فى أنفسهن) * مما يدرك بلطف وخفاء، ختم ذلك بقوله: * (والله بما تعملون خبير) * وفي ختم هذه الآية بقوله: * (إن الله بما تعملون بصير) * وعد جميل للمحسن وحرمان لغير المحسن.
وقد تضمنت هذه الآية الكريمة والتي قبلها أنواعا من الفصاحة، وضروبا من علم البيان والبلاغة.
الكناية في: أن تمسوهن، والتجنيس المغاير، في: فرضتم لهن فريضة، والطباق في: الموسع والمقتر والتأكيد بالمصدرين في: متاعا وحقا، والاختصاص: في: حقا على المحسنين، ويمكن أن يكون من: التيمم، لما قال: حقا، أفهم الإيجاب، فلما قال: على المحسنين تمم المعنى، وبين أنه من باب التفضل والإحسان لا من باب الإيجاب، فلما قال: على المحسنين تمم التعميم، وبين أنه من باب التفضل والإحسان، لا من باب الإيجاب؛
(٢٤٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 242 243 244 245 246 247 248 249 250 251 252 ... » »»