تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٢٤٠
عنهم بعض روع التهديد والوعيد، والتحذير من عقابه، ليعتدل قلب المؤمن في الرجاء والخوف، وختم بهاتين الصفتين المقتضيتين المبالغة في الغفران والحلم، ليقوي رجاء المؤمن في إحسان الله تعالى، وطمعه في غفرانه وحلمه إن زل وهفا، وأبرز كل معنى من التحذير والإطماع في جملة مستقلة، وكرر اسم الله تعالى للتفخيم، والتعظيم بمن يسند إليه الحكم، وجاء خبر أن الأولى بالمضارع، لأن ما يهجس في النفوس يتكرر فيتعلق العلم به، فكأن العلم يتكرر بتكرر متعلقه، وجاء خبر أن الثانية بالاسم ليدل على ثبوت الوصف، وأنه قد صار كأنه من صفات الذات، وإن كان من صفات الفعل.
قيل: وتضمنت هذه الآيات ضروبا من البديع.
منها: معدول الخطاب، وهو أن الخطاب بقوله: * (والذين يتوفون) * الآية عام والمعنى على الخصوص. ومنها: النسخ، إذ هي ناسخة للحول على قول الأكثرين. ومنها: الاختصاص، وهو أن يخص عددا فلا يكون ذلك إلا لمعنى، وذلك في قوله: * (أربعة أشهر وعشرا) * ومنها: الكناية، في قوله: * (ولاكن لا تواعدوهن سرا) * كنى بالسر عن النكاح، وهي من أبلغ الكنايات. ومنها: التعريض، في قوله: * (يعلم ما فى أنفسكم) * ومنها: التهديد، بقوله * (فاحذروه) * ومنها: الزيادة في الوصف، بقوله: * (غفور حليم) *.
* (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة) * نزلت في أنصارى تزوج حنيفية ولم يسم مهرا، ثم طلقها قبل أن يمسها، فقال صلى الله عليه وسلم): (متعها ولو بقلنسوتك): فذلك قوله: * (لا جناح عليكم) * الآية.
ومناسبتها لما قبلها أنه: لما بين تعالى حكم المطلقات المدخول بهن، والمتوفى عنهن أزواجهن، بين حكم المطلقة غير المدخول بها، وغير المسمى لها مدخولا بها، أو غير ذلك.
والمطلقات أربع: مدخول بها مفروض لها، ونقيضتها، ومفروض لها غير مدخول بها، ونقيضتها.
والخطاب في قوله: * (لا جناح عليكم) * للأزواج، ومعنى نفي الجناح هنا هو أنه: لما نهى عن التزوج بمعنى الذوق وقضاء الشهوة، وأمر بالتزوج طلبا للعصمة والثواب، ودوام الصحبة، وقع في بعض نفوس المؤمنين أن من طلق قبل البناء يكون قد أوقع جزءا من هذا المكروه، فرفع الله الجناح في ذلك، إذا كان أصل النكاح على المقصد الحسن.
* (ما لم تمسوهن) * قرأ حمزة والكسائي: تماسوهن، مضارع ما من، فاعل. وقرأ باقي السبعة مضارع مسست، وفاعل. يقتضى اشتراك الزوجين في المسيس، ورجح أبو علي قراءة: تمسوهن، بأن أفعال هذا الباب جاءت ثلاثية، نحو: نكح، وسفد، وفزع، ودقط، وضرب الفحل، والقرابان حسنتان، والمس هنا والمماسة: الجماع، كقوله: * (ولم يمسسنى بشر) * و: ما، في قوله: * (ما لم تمسوهن) * الظاهر أنها ظرفية مصدرية، التقدير: زمان عدم المسيس كقوله الشاعر:
* إني بحبلك واصل حبلي * وبريش نبلك رائش نبلي * * ما لم أجدك على هدى أثر * يقرو مقصك قائف قبلي وهذه ما، الظرفية المصدرية، شبيهة بالشرط، وتقتضي التعميم نحو: أصحبك ما دمت لي محسنا، فالمعنى: كل وقت دوام إحسان. وقال بعضهم: ما، شرطية، ثم قدرها بأن، وأراد بذلك، والله أعلم، تفسير المعنى، و: ما إذا كانت شرطا تكون اسما
(٢٤٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 235 236 237 238 239 240 241 242 243 244 245 ... » »»