تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٢٤٨
والالتفات: في: وأن تعفوا، ولا تنسوا؛ والعدول عن الحقيقة إلى المجاز في: الذي بيده عقدة النكاح، عبر عن الإيجاب والقبول بالعقدة التي تعقد حقيقة، لما في ذلك القول من الارتباط لكل واحد من الزوجين بالآخر.
* (حافظوا على الصلوات) * قالوا: هذه الآية معترضة بين آيات المتوفى عنها زوجها، والمطلقات، وهي متقدمة عليهن في النزول، متأخرة في التلاوة ورسم المصحف، وشبهوها بقوله: * (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) * وبقوله: * (وإذ قتلتم نفسا) * قالوا: فيجوز أن تكون مسوقة على الآيات التي ذكر فيها القتال، لأنه بين فيها أحوال الصلاة في حال الخوف، قالوا: وجاء ما هو متعلق بأبعد من هذا، زعموا أن قوله تعالى: * (ليس بأمانيكم ولا أمانى أهل الكتاب) * ردا لقوله: * (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) * قالوا: وأبعد منه: * (سأل سائل بعذاب واقع) * راجع إلى قوله: * (وإذا * قالوا اللهم إن كان هاذا هو الحق من عندك) * الآية قالوا: أو يجوز أن يكون حدث خوف قبل إنزال إتمام أحكام المطلقات، فبين تعالى أحكام صلاة الخوف عند مسيس الحاجة إلى بيانه، ثم أنزل إتمام أحكام المطلقات.
قالوا: ويجوز أن تكون متقدمة في التلاوة ورسم المصحف، متأخرة في النزول قبل هذه الآيات، على قوله بعد هذه الآية: * (وقاتلوا في سبيل الله) * وهذه كلها أقوال كما ترى.
والذي يظهر في المناسبة أنه تعالى، لما ذكر تعالى جملة كثيرة من أحوال الأزواج والزوجات، وأحكامهم في النكاح والوطء، والإيلاء والطلاق، والرجعة، والإرضاع والنفقة والكسوة، والعدد والخطبة، والمتعة والصداق والتشطر، وغير ذلك، كانت تكاليف عظيمة تشغل من كلفها أعظم شغل، بحيث لا يكاد يسع معها شيء من الأعمال، وكان كل من الزوجين قد أوجب عليه للآخر ما يستفرغ فيه الوقت، ويبلغ منه الجهد، وأمر كلا منهما بالإحسان إلى الآخر حتى في حالة الفراق، وكانت مدعاة إلى التكاسل عن الاشتغال بالعبادة إلا لمن وفقه الله تعالى، أمر تعالى بالمحافظة على الصلوات التي هي الوسيلة بين الله وبين عبده، وإذا كان قد أمر بالمحافظة على أداء حقوق الآدميين، فلأن يؤمر بأداء حقوق الله أولى وأحق، ولذلك جاء: (فدين الله أحق أن يقضى) فكأنه قيل: لا يشغلنكم التعلق بالنساء وأحوالهن عن أداء ما فرض الله عليكم، فمع تلك الأشغال العظيمة لا بد من المحافظة على الصلاة، حتى في حالة الخوف، فلا بد من أدائها رجالا وركبانا، وإن كانت حالة الخوف أشد من حالة الاشتغال بالنساء، فإذا كانت هذه الحالة الشاقة جدا لا بد معها من الصلاة، فأحرى ما هو دونها من الأشغال المتعلقة بالنساء.
وقيل: مناسبة الأمر بالمحافظة على الصلوات عقيب الأوامر السابقة أن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر، فيكون ذلك عونا لهم على امتثالها، وصونا لهم عن مخالفتها، وقيل: وجه ارتباطها بما قبلها وبما بعدها، أنه لما أمر تعالى بالمحافظة على حقوق الخلق بقوله: * (ولا * تنسوا الفضل بينكم) * ناسب يأمر بالمحافظة على حقوق الحق، ثم لما كانت حقوق الآدميين منها ما يتعلق بالحياة، وقد ذكره، ومنا ما يتعلق بالممات، ذكره بعده، في قوله: * (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية) * الآية.
والخطاب: * (* يحافظوا) * لجميع المؤمنين، وهل يعم الكافرين؟ فيه خلاف. و: حافظوا، من باب: طارقت النعل، ولما ضمن المعنى التكرار والمواظبة عدى بعلى، وقد رام بعضهم أن يبقى فاعل على معناها الأكثر فيها من الاشتراك بين اثنين، فجعل المحافظة بين العبد وبين الرب، كأنه قيل: احفظ هذه الصلاة يحفظك الله الذي أمر بها، ومعنى المحافظة هنا: دوام ذكرها، أو الدوام على تعجيلها في أول أوقاتها، أو: إكمال فروضها وسننها، أو جميع ما تقدم. أقوال أربعة.
والألف واللام فيها للعهد، وهي: الصلوات الخمس. قالوا: وكل صلاة في القرآن مقرونة بالمحافظة، فالمراد بها الصلوات الخمس.
* (بصير حافظوا على) * الوسطى فعلى مؤنثة الأوسط، كما قال أعرابي يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم):
* يا أوسط الناس طرا في مفاخرهم * وأكرم الناس أما برة وأبا
(٢٤٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 243 244 245 246 247 248 249 250 251 252 253 ... » »»