تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ١٥٥
هدم الإسلام وتقوية الكفر، فاختير التنكير في اللفظين لأجل هذه الدقيقة، ولو وقع التعبير عنهما، أو عن أحدهما، بلفظ التعريف لبطلت هذه الفائدة. إنتهى.
واتفق الجمهور على أن حكم هذه الآية حرمة القتال في الشهر الحرام، إذ المعنى: قل قتال فيه لهم كبير، فقال ابن عباس، وقتادة، وابن المسيب، والضحاك، والأوزاعي: إنها منسوخة بآية السيف: * (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) * إذ يلزم من عموم المكان عموم الزمان.
وقيل: هي منسوخة بقوله: * (وقاتلوا المشركين كافة) *، وإلى هذا ذهب الزهري، ومجاهد، وغيرهما.
وقيل: نسخهما غزو النبي صلى الله عليه وسلم) ثقيفا في الشهر الحرام، وإغزاؤه أبا عامر إلى أوطاس في الشهر الحرام.
وقيل: نسخها بيعة الرضوان والقتال في ذي القعدة، وضعف هذا القول بأن تلك البيعة كانت على الدفع لا على الابتداء بالقتال.
وقال عطاء لم تنسخ، وحلف بالله ما يحل للناس أن يغزو في الحرم، ولا في الشهر الحرام إلا أن يقاتلوا فيه، وروي هذا القول عن مجاهد أيضا؟ وروى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) لم يكن يغزو في الأشهر الحرم إلا أن يغزى، وذلك قوله: قل قتال فيه كبير.
ورجح كونها محكمة بهذا الحديث، وبما رواه ابن وهب، أن النبي صلى الله عليه وسلم) ودى ابن الحضرمي، ورد الغنيمة والاسيرين، وبأن الأيات التي وردت بعدها عامة في الأزمنة وهذا خاص، والعام لا ينسخ الخاص باتفاق.
* (وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل) * هذة جملة من مبتدأ وخبر معطوفة على قوله تعالى: فيه كبير، وكلا الجملتين مقولة، أي: قل لهم قتال في الشهر الحرام إثم كبير، وقل لهم: صد عن كذا إلى آخره، أكبر من القتال، ويحتمل أن يكون مقطوعا من القول، بل إخبار مجرد عن أن الصد عن سبيل الله، وكذا وكذا، أكبر، والمعنى: أنكم يا كفار قريس تستعظمون منا القتال في الشهر الحرام، وما تفعلون أنتم: من الصد عن سبيل الله لمن أراد الإسلام، ومن كفركم بالله، واخراجكم أهل المسجد منه كما فعلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم) وأصحابه، أكبر جرما عند الله مما فعلته السرية من القتال في الشهر الحرام، على سبيل البناء على الظن.
وتقدم لنا أن هذه الجملة من مبتدأ وخبر، فالمبتدأ: صد، وهو نكرة مقيدة بالجار والمجرور، فساغ الابتداء، وهو مصدر محذوف فاعله ومفعوله للعلم بهما، أي: وصدكم المسلمين عن سبيل الله.
وسبيل الله: الإسلام. قاله مقاتل، أو: الحج، لأنهم صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم) عن مكة قاله ابن عباس، والسدي عن أشياخه، أو: الهجرة، صدوا المسلمين عنها.
و: كفر به، معطوف على: وصد، وهو أيضا مصدر لازم حذف فاعله، تقديره: وكفركم به، والضمير في: به، يعود على السبيل لأنه هو المحدث عنه بأنه صد عنه، والمعنى: وكفر بسبيل الله، وهو دين الله وشريعته، وقيل: يعود الضمير في: به، على الله تعالى، قاله الحوفي.
والمسجد الحرام: هو الكعبة، وقرئ شاذا والمسجد الحرام بالرفع، ووجهه أنه عطفه على قوله: وكفر به، ويكون على حذف مضاف، أي: وكفر بالمسجد الحرام، ثم حذف الباء وأضاف الكفر إلى المسجد، ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، فيؤول إلى معنى قراءة الجمهور من خفض المسجد الحرام على أحسن التأويلات التي نذكرها، فنقول: اختلفوا فيماعطف عليه والمسجد، فقال ابن عطية، والزمخشري، وتبعا في ذلك المبرد: هو معطوف على: سبيل الله، قال ابن عطية: وهذا هو الصحيح، ورد هذا القول بأنه إذا كان معطوفا على: سبيل الله، كان متعلقا بقوله: وصد إذ التقدير: وصد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، فهو من تمام عمل المصدر، وقد فصل بينهما بقوله: وكفر به، ولا يجوز أن يفصل بين الصلة والموصول، وقيل: معطوف على الشهر الحرام، وضعف هذا بأن القوم لم يسألوا عن الشهر الحرام، إذ لم يشكوا في تعظيمه، وإنما سألوا عن القتال في الشهر الحرام، لأنه وقع منهم ولم يشعروا بدخوله، فخافوا من الإثم. وكان المشركون عيروهم بذلك، إنتهى، ما ضعف به هذا القول، وعلى هذا التخريج يكون السؤال عن شيئين: أحدهما: عن قتال في الشهر الحرام، والآخر: عن
(١٥٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 150 151 152 153 154 155 156 157 158 159 160 ... » »»