نزلت في أول سرية الإسلام أميرهم عبد الله بن جحش، أغاروا على عير لقريش قافلة من الطائف وقتلوا عمرو بن الحضرمي آخر يوم من جمادى الآخرة، فاشتبه بأول رجب، فعيرهم أهل مكة باستحلاله.
وقيل: نزلت حين عاب المشركون القتال في شهر حرام عام الفتح، وقيل: نزلت في قتل عمرو بن أمية الضمري رجلين من كلاب كانا عند النبي صلى الله عليه وسلم)، وعمر ولا يعلم بذلك، وكان في أول يوم من رجب، فقالت قريش: قتلهما في الشهر الحرام، فنزلت.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما فرض القتال لم يخص بزمان دون زمان، وكان من العوائد السابقة أن الشهر الحرام لا يستباح فيه القتال، فبين حكم القتال في الشهر الحرام. وسيأتي معنى قوله * (قل قتال فيه * كبير) * كما جاء: * (واقتلوهم حيث ثقفتموهم) * وجاء بعده: * (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام) * ذلك التخصيص في المكان، وهذا في الزمان.
وضمير الفاعل في يسألونك، قيل: يعود على المشركين، سألوا تعييبا لهتك حرمة الشهداء، وقصدا للفتك، وقيل: يعود على المؤمنين، سألوا استعظاما لما صدر من ابن جحش واستيضاحا للحكم.
والشهر الحرام، هنا هو رجب بلا خلاف، هكذا قالوا، وذلك على أن تكون الألف واللام فيه للعهد، ويحتمل أن تكون للجنس، فيراد به الأشهر الحرام وهي: ذو القعدة، ذو الحجة، والمحرم ورجب. وسميت حرما لتحريم القتال فيها، وتقدم شيء من هذا في قوله: * (الشهر الحرام بالشهر الحرام) *.
وقرأ الجمهور: قتال فيه، بالكسر وهو بدل من الشهر، بدل اشتمال وقال الكسائي: هو مخفوض على التكرير، وهو معنى قول الفراء، لأنه قال: مخفوض بعن مضمرة، ولا يجعل هذا خلافا كما يجعله بعضهم، لأن قول البصريين إن البدل على نية تكرار العامل هو قول الكسائي، والفراء.
لا فرق بين هذه الأقوال، هي كلها ترجع لمعنى واحد.
وقال أبو عبيدة: قتال فيه، خفض على الجوار، قال ابن عطية: هذا خطأ. إنتهى. فإن كان أبو عبيدة عنى الخفض على الجوار الذي اصطلح عليه النحاة، فهو كما قال ابن عطية: وجه الخطا فيه هو أن يكون تابعا لما قبله في رفع أو نصب من حيث اللفظ والمعنى، فيعدل به عن ذلك الإعراب إلى إعراب الخفض لمجاورته لمخفوض لا يكون له تابعا من حيث المعنى، وهنا لم يتقدم لا مرفوع، ولا منصوب، فيكون: قتال، تابعا له، فيعدل به عن إعرابه إلى الخفض على الجوار، وإن كان أبو عبيدة عنى الخفض على الجوار أنه تابع لمخفوض، فخفضه بكونه جاور مخفوضا أي: صار تابعا له، ولا نعني به المصطلح عليه، جاز ذلك ولم يكن خطأ، وكان موافقا لقول الجمهور، إلا أنه أغمض في العبارة، وألبس في المصطلح.
وقرأ ابن عباس، والربيع، والأعمش: عن قتال فيه، بإظهار: عن، وهكذا هو في مصحف عبد الله.
وقرئ شاذا: قتال فيه، بالرفع، وقرأ عكرمة: قتل فيه قل قتل فيه، بغير ألف فيهما.
ووجه الرفع في قراءة: قتال فيه، أنه على تقدير الهمزة فهو مبتدأ، وسوغ جواز الابتداء فيه، وهو نكرة، لنية همزة الاستفهام، وهذه الجملة المستفهم عنها هي في موضع البدل من: الشهر الحرام، لأن: سأل، قد أخذ مفعوليه، فلا يكون في موضع المفعول، وإن كانت هي محط السؤال، وزعم بعضهم أنه مرفوع على إضمار اسم فاعل تقديره: أجائز قتال فيه؟ قيل: ونظير هذا، لأن السائلين لم يسألوا عن كينونة القتال في الشهر الحرام، إنما سألوا: أيجوز القتال في الشهر الحرام؟ فهم سألوا عن مشروعيته لا عن كينونته فيه.
* (قل قتال فيه كبير) * هذه الجملة مبتدأ وخبر، و: قتال، نكرة، وسوغ الابتداء بها كونها وصفت بالجار والمجرور، وهكذا قالوا، ويجوز أن يكون: فيه، معمولا لقتال، فلا يكون في موضع الصفة، وتقييد النكرة بالمعمول مسوغ أيضا لجواز الابتدا بالنكرة، وحد الاسم إذا تقدم نكرة، وكان إياها، أن يعود معرفا بالألف واللام، تقول: لقيت رجلا فضربت الرجل، كما قال تعالى: * (كما أرسلنا إلى فرعون رسولا * فعصى فرعون الرسول) * قيل: وإنما لم يعد بالألف واللام هنا لأنه ليس المراد تعظيم القتال المذكور المسؤول عنه. حتى يعاد بالألف واللام، بل المراد تعظيم: أي قتال كان في الشهر الحرام، فعلى هذا: قتال الثاني، غير الأول انتهى.
وليست الألف واللام تفيد التعظيم في الاسم، إذ كانت النكرة السابقة، بل هي فيه للعهد السابق، وقيل: في (المنتخب): إنما نكر فيهما لأن النكرة الثانية هي غير الأولى، وذلك أنهم أرادوا بالأول الذي سألوا عنه، فقال عبد الله بن جحش، وكان لنصرة الإسلام وإذلال الكفر، فلا يكون هذا من الكبائر، بل الذي يكون كبيرا هو قتال غير هذا، وهو ما كان الغرض فيه