تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ١٦٠
* (لئن أشركت ليحبطن عملك) * والخطاب في المعنى لأمته، وإلى هذا ذهب مالك، وأبو حنيفة، وغيرهما، يعني: أنه يحبط علمه بنفس الردة. دون الموافاة عليها، وإن راجع الإسلام، وثمرة الخلاف تظهر في المسلم إذا حج، ثم ارتد، ثم أسلم، فقال مالك: يلزمه الحج، وقال الشافعي: لا يلزمه الحج.
ويقول الشافعي: اجتمع مطلق ومقيد، فتقيد المطلق، ويقول غيره: هما شرطان ترتب عليهما شيئان، أحد الشرطين: الإرتداد، ترتب عليه حبوط العمل، الشرط الثاني: الموافاة على الكفر، ترتب عليها الخلود في النار.
والجملة من قوله: وهو كافر، في موضع الحال من الضمير المستكن في: فيمت، وكأنها حال مؤكدة، لأنه لو استغنى عنها فهم معناها، لأن ما قبلها يشعر بالتعقيب للارتداد. وكون الحال جاء جملة فيها مبالغة في التأكيد، إذ تكرر الضمير فيها مرتين، بخلاف المفرد، فإنه فيه ضمير واحد.
وتعرض المفسرون هنا لحكم المرتد، ولم تتعرض الآية إلا لحبوط العمل، وقد ذكرنا الخلاف فيه هل يشترط فيه الموافاة على الكفر أم يحبط بمجرد الردة؟ وأما حكمه بالنسبة إلى القتل، فذهب النخعي والثوري: إلى أنه يستتاب محبوسا أبدا، وذهب طاووس، وعبيد بن عمير، والحسن، على خلاف عنه، وعبد العزيز بن أبي سلمة، والشافعي: في أحد قوليه، إلى أنه يقتل من غير استتابة. وروي نحو هذا عن أبي موسى، ومعاذ، وقال جماعة من أهل العلم: يستتاب، وهل يستتاب في الوقت؟ أو في ساعة واحدة؟ أو شهر؟ روي هذا عن علي، أو ثلاثة أيام؟ وروي عن عمر، وعثمان، وهو قول مالك فيما رواه ابن القاسم، وقول أحمد، وإسحاق، والشافعي، في أحد قوليه، وأصحاب الرأي: أو مائة مرة؟ وهو قول الحسن.
وقال عطاء: إن كان ابن مسلمين قتل دون استتابة، وإن كان أسلم ثم ارتد أستتيب. وقال الزهري: يدعي إلى الإسلام، فإن تاب وإلا قتل. وقال أبو حنيفة: يعرض عليه الإسلام، فإن أسلم وإلا قتل مكانه إلا أن يطلب أن يؤجل، فيؤجل ثلاثة أيام. والمشهور عنه، وعن أصحابه، أنه لا يقتل حتى يستتاب.
والزنديق عندهم والمرتد سواء.
وقال مالك: تقتل الزنادقة من غير استتابة، ولو ارتد ثم راجع ثم ارتد، فحكمه في الردة الثانية أو الثالثة أو الرابعة كالأولى، وإذا راجع في الرابعة ضرب وخلي سبيله، وقيل: يحبس حتى يرى أثر التوبة والإخلاص عليه، ولو انتقل الكافر من كفر إلى كفر، فالجمهور على أنه لا يقتل.
وذكر المزني، والربيع، عن الشافعي: أن المبدل لدينه من أهل الذمة يلحقه الإمام بأرض الحرب، ويخرجه من بلده، ويستحل ماله مع أموال الحربيين إن غلب على الدار، هذا حكم الرجل.
وأما المرأة إذا ارتدت فقال مالك، والأوزاعي، والليث، والشافعي: تقتل كالرجل سواء، وقال عطاء، والحسن، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه، وابن شبرمة، وابن عطية لا تقتل. وروي ذلك عن علي وابن عباس.
وأما ميراثه، فأجمعوا على أن أقرباءه من الكفار لا يرثونه إلا ما نقل عن قتادة، وعمر بن عبد العزيز، أنهم يرثونه، وقد روي عن عمر خلاف هذا، وقال علي، والحسن، والشعبي، والحكم، والليث، وأبو حنيفة في أحد قوليه، وابن راهويه: يرثه أقرباؤه المسلمون. وقال مالك، وربيعة وابن أبي ليلى، والشافعي، وأبو ثور: ميراثه في بيت المال، وقال ابن شبرمة، وأبو يوسف، ومحمد، والأوزاعي في إحدى الروايتين: ما اكتسبه بعد الردة لورثته المسلمين. وقال أبو حنيفة، ما اكتسبه في حالة الإسلام قبل الردة لورثته المسلمين.
وقرأ الحسن: حبطت بفتح الباء، وهما لغتان، وكذا قرأها أبو السماك في جميع القرآن، وقوله: * (فأولئك حبطت أعمالهم) * أتى باسم الإشارة وهو يدل على من اتصف بالأوصاف السابقة، وأتى به مجموعا حملا على معنى: من، لأنه أولا حمل على اللفظ في قوله: * (يرتد * فيمت وهو كافر) * وإذا جمعت بين الحملين، فالأصح أن تبدأ بالحمل على اللفظ، ثم بالحمل على المعنى. وعلى هذا الأفصح جاءت هذه الآية * (وفى * الدنيا) * متعلق بقوله: * (حبطت) *.
* (وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * تقدم تفسير هذه الجملة، فأغنى عن إعادته، وهذه الجملة يحتمل أن تكون ابتدأ إخبار من الله تعالى بخلود هؤلاء في النار، فلا تكون داخلة في الجزاء وتكون معطوفة على الجملة الشرطية،
(١٦٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 155 156 157 158 159 160 161 162 163 164 165 ... » »»