تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ١٥٩
العداوة، وأن قتالهم إياكم معلق بإمكان ذلك منهم لكم، وقدرتهم على ذلك.
و: حتى يردوكم، يحتمل الغاية، ويحتمل القليل، وعليهما حملها أبو البقاء وهي متعلقة في الوجهين: بيقاتلونكم، وقال ابن عطية: ويردوكم، نصب بحتى لأنها غاية مجردة، وقال الزمخشري: وحتى، معناها التعليل، كقولك: فلان يعبد الله حتى يدخل الجنة، أي: يقاتلونكم كي يردوكم. انتهى. وتخريج الزمخشري أمكن من حيث المعنى، إذ يكون الفعل الصادر منهم المنافي للمؤمنين، وهو: المقاتلة، ذكر لها علة توجيها، فالزمان مستغرق للفعل ما دامت علة الفعل، وذلك بخلاف الغاية، فإنها تقييد في الفعل دون ذكر الحامل عليه، فزمان وجوده مقيد بغايته، وزمان وجود الفعل المعلل مقيد بوجود علة، وفرق في القوة بين المقيد بالغاية والمقيد بالعلة لما في التقييد بالعلة من ذكر الحامل وعدم ذلك في التقييد بالغاية.
و: عن دينكم، متعلق: بيردوكم، والدين هنا الإسلام، و: إن استطاعوا، شرط جوابه محذوف يدل عليه ما قبله، التقدير: إن استطاعوا فلا يزالون يقاتلونكم، ومن جوز تقديم جواب الشرط، قال: ولا يزالون، هو الجواب.
وقال الزمخشري: إن استطاعوا، استبعاد لاستطاعتهم، كقول الرجل لعدوه: إن ظفرت بي قلا تبق علي، وهو واثق بأنه لا يظفر به. انتهى قوله: ولا بأس به.
* (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والاخرة) * ارتد: افتعل من الرد، وهو الرجوع، كما قال تعالى: * (فارتدا علىءاثارهما قصصا) * وقد عدها بعضهم فيما يتعدى إلى اثنين، إذا كانت عنده، بمعنى: صير وجعل، من ذلك قوله: * (فارتد بصيرا) * أي: صار بصيرا، ولم يختلف هنا في فك المثلين، والفك هو لغة الحجاز، وجاء افتعل هنا بمعنى التعمل والتكسب. لأنه متكلف، إذ من باشر دين الحق يبعد أن يرجع عنه، فلذلك جاء افتعل هنا، وهذا المعنى، وهو التعمل والتكسب، هو أحد المعاني التي جاءت لها افتعل.
و: منكم، في موضع الحال من الضمير المستكن في: يرتدد، العائد على: من، و: من، للتبعيض، و: عن دينه، متعلق بيرتدد، والدين: هنا هو الإسلام، لأن الخطاب مع المسلمين، والمرتد إليه هو دين الكفر، بدليل أن ضد الحق الباطل، وبقوله: * (فيمت وهو كافر) * وهذان شرطان أحدهما معطوف على الآخر بالفاء المشعرة بتعقيب الموت على الكفر بعد الردة واتصاله بها، ورتب عليه حبوط العمل في الدنيا والآخرة. وهو حبطه في الدنيا باستحقاق قبله، وإلحاقه في الأحكام بالكفار وفي الآخرة بما يؤول إليه من العقاب السرمدي، وقيل: حبوط أعمالهم في الدنيا هو عدم بلوغهم ما يريدون بالمسلمين من الإضرار بهم ومكايدتهم، فلا يحصلون من ذلك على شيء، لأن الله قد أعز دينه بأنصاره.
وظاهر هذا الشرط والجزاء ترتب حبوط العمل على الموافاة على الكفر، لا على مجرد الاتداد، وهذا مذهب جماعة من العلماء، منهم: الشافعي، وقد جاء ترتب حبوط العمل على مجرد الكفر في قوله: * (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله) * * (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) * * (والذين كذبوا بئاياتنا ولقاء الاخرة حبطت أعمالهم) *
(١٥٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 154 155 156 157 158 159 160 161 162 163 164 ... » »»