تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ١٥٨
من الكفار بمكة أهله لأن بقاءهم عارض يزول، كما قال تعالى: * (وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون) * و: منه، متعلق بإخراج، والضمير في: منه، عائد على المسجد الحرام، وقيل: عائد على: سبيل الله، وهو الإسلام، والأول أظهر. و: أكبر، خبر عن المبتدأ الذي هو: وصد، وما عطف عليه، ويحتمل أن يكون خبرا عن المجموع، ويحتمل أن يكون خبرا عنها باعتبار كل واحد واحد، كما تقول: زيد وعمرو وبكر أفضل من خالد، نزيد: كل واحد منهم أفضل من خالد، وهذا الظاهر لا المجموع، وإفراد الخبر لأنه أفعل تفضيل مستعمل: بمن، الداخلة على المفضول في التقدير، وتقديره: أكبر من القتال في الشهر الحرام، فحذف للعلم به.
وقيل: وصد مبتدأ. و: كفر، معطوف عليه، وخبرهما محذوف لدلالة خبر: وإخراج، عليه. والتقدير: وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام أكبر، ولا يجتاج إلى هذا التقدير لأنا قد بينا كون: أكبر، خبرا عن الثلاثة.
وعند الله، منصوب بأكبر، ولا يراد: بعند، المكان بل ذلك مجاز.
وذكر ابن عطية، والسجاوندي عن الفراء أنه قال: وصد عطف على كبير، قال ابن عطية: وذلك خطأ، لأن المعنى يسوق إلى أن قوله: وكفر به، عطف أيضا على كبير، ويجيء من ذلك أن إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر عند الله، وهذا بين فساده. انتهى كلام ابن عطية، وليس كما ذكر، ولا يتعين ما قاله من أن: وكفر به، عطف على، كبير، إذ يحتمل أن يكون الكلام قد تم عند قوله: وصد عن سبيل الله، ويكون قد أخبر عن القتال في الشهر الحرام بخبرين. أحدهما: أنه كبير، والثاني: أنه صد عن سبيل الله، ثم ابتدأ فقال: والكفر بالله، وبالمسجد الحرام، وإخراج أهله منه أكبر عند الله من القتال الذي هو كبير، وهو صد عن سبيل الله. وهذا معنى سائغ حسن، ولا شك أن الكفر بالله وما عطف عليه أكبر من القتال المذكور. وقوله: ويجيء من ذلك أن إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر عند الله، وهذا بين فساده، ليس بكلام مخلص، لأنه لا يجيء منه ما ذكر إلا بتكلف بعيد، بل يجيء منه أن إخراج أهل المسجد منه أكبر عند الله من القتال المخبر عنه بأنه كبير، وبأنه صد عن سبيل الله، فالمحكوم عليه بالأكبرية هو الإخراج، والمفضول فيها هو القتال لا الكفر والفتنة، أي: الكفر والشرك، قاله ابن عمر، وابن عباس، ومجاهد، وابن جبير، وقتادة وغيرهم.
أو التعذيب الحاصل للمؤمنين ليرجعوا عن الإسلام، فهي أكبر حرما من القتل، والمعنى عند جمهور المفسرين أن الفتنة التي كانت تفتن المسلمين عن دينهم حتى يهلكوا، أشد اجتراما من قتلهم إياكم في المسجد الحرام، وقيل: المعنى: والفتنة أشد من أن لو قتلوا ذلك المفتون، أي فعلكم بكل إنسان، أشد من فعلنا، لأن الفتنة ألم متجدد، والقتل ألم منقض.
ومن فسر الفتنة بالكفر كان المعنى عنده: وكفركم أشد من قتلنا أولئك، وصرح هنا بالمفضول، وهو قوله: من القتل، ولم يحذف. لأنه لا دليل على حذفه، بخلاف قوله: أكبر عند الله، فإنه تقدم ذكر المفضول عليه، وهو: القتال، وقال عبد الله بن جحش في هذه القصة شعرا:
* تعدون قتلا في الحرام عظيمة * وأعظم منها لو يرى الرشد راشد * صدودكم عما يقول محمد وكفر به والله راء وشاهد * * وإخراجكم من مسجد الله رحله * لئلا يرى لله في البيت ساجد * فإنا، وإن عيرتمونا بقتلة وأرجف بالإسلام باغ وحاسد * * سقينا من ابن الحضرمي رماحنا * بنخلة لما أوقد الحرب واقد * * دما، وابن عبد الله عثمان بيننا * ينازعه غل من القد عاند * * (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) * الضمير في: يزالون، للكفار، وهذا يدل على أن الضمير المرفوع في قوله: يسألونك، هو الكفار، والضمير المنصوب في: يقاتلونكم، خوطب به المؤمنون، وانتقل عن خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) إلى خطاب المؤمنين، وهذا إخبار من الله للمؤمنين بفرط عداوة الكفار، ومباينتهم لهم، ودوام تلك
(١٥٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 153 154 155 156 157 158 159 160 161 162 163 ... » »»