تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ١٤٤
آدم وبنوه كانوا على دين حق فاختلفوا من حين قتل قابيل هابيل، أو: بنو آدم من وقت موته إلى مبعث نوح كانوا كفارا أمثال البهائم، قاله عكرمة، وقتادة. أو: قوم إبراهيم كانوا على دينه إلى أن غيره عمرو بن يحيى؛ أو: أهل الكتاب ممن آمن بموسى على نبينا وعليه السلام، أو: قوم نوح حين بعث إليهم كانوا كفارا قاله ابن عباس، أو: الجنس كانوا أمة واحدة في خلوهم عن الشرائع لا أمر عليهم ولا نهى. أو: صنفا واحدا، فكان المراد: أن الكل من جوهر واحد، وأب واحد، ثم خص صنفا من الناس ببعث الرسل إليهم، وإنزال الكتب عليهم تكريما لهم، قاله الماتريدي فهذه إثنا عشر قولا في الناس.
وأما في التوحيد فخمسة أقوال: أما في الإيمان، وأما في الكفر، وأما في الخلقة على الفطرة، وأما في الخلو عن الشرائع، وأما في كونهم من جوهر واحد. وهو الأب.
وقد رجح كونهم أمة واحدة في الإيمان بقوله: * (فبعث الله) * وإنما بعثوا حين الاختلاف، ويؤكده قراءة عبد الله * (أمة واحدة) * فاختلفوا، وبقوله: * (ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) * فهذا يدل على أن الاتفاق كان حصل قبل البعث والإنزال، وبدلالة العقول، إذ النظر المستقيم يؤدي إلى الحق، ويكون آدم بعث إلى أولاده، وكانوا مسلمين، وبالولادة على الفطرة، وبأن أهل السفينة كانوا على الحق، وبإقرارهم في يوم الذر.
ويظهر أن هذا القول هو الأرجح لقراءة عبد الله وللتصريح بهذا المحذوف في آية أخرى، وهو قوله تعالى: * (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا) * والقرآن يفسر بعضه بعضا، وتقدم شرح: أمة في قوله: * (ومن ذريتنا أمة مسلمة لك) *.
وفي قراءة أبي: كان البشر، إشارة إلى أنه لا يراد بالناس معهودون، ومن جعل الاتحاد في الإيمان قدر، فاختلفوا فبعث الله، ومن جعل ذلك في الكفر لا يحتاج إلى هذا التقدير، إذ كانت بعثة النبيين إليهم، وأول الرسل على ما ورد في الصحيح في حديث الشفاعة: نوح على نبينا وعليه السلام، يقول الناس له: أنت أول الرسل، المعني: إلى قوم كفار، لأن آدم قبله، وهو مرسل إلى بنيه يعلمهم الدين والإيمان. * (فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين) * أي: أرسل النبيين مبشرين بثواب من أطاع، ومنذرين بعقاب من عصى، وقدم البشارة لأنها أبهج للنفس، وأقبل لما يلقى النبي، وفيها اطمئنان المكلف، والوعد بثواب ما يفعله من الطاعة، ومنه. * (فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا) * وانتصاب: مبشرين ومنذرين، على الحال المقارنة.
* (وأنزل معهم الكتاب بالحق) * معهم حال من الكتاب: وليس تعمل فيه أنزل، إذ كان يلزم مشاركتهم له في الإنزال، وليسوا متصفين، وهي حال مقدرة أي: وأنزل الكتاب مصاحبا لهم وقت الإنزال لم يكن مصاحبا لهم، لكنه انتهى إليهم.
والكتاب: إما أن تكون أل فيه للجنس، وإما أن تكون للعهد على تأويل: معهم، بمعنى مع كل واحد منهم، أو على تأويل أن يراد به واحد معين من الكتب، وهو التوراة. قاله الطبري، أنزلت على موسى وحكم بها النبيون بعده، واعتمدوا عليها كالأسباط وغيرهم، ويضعف أن يكون مفردا وضع موضع الجمع، وقد قيل به.
ويحتمل: بالحق، أن يكون متعلقا: بأنزل، أو بمعنى ما في الكتاب من معنى الفعل، لأنه يراد به المكتوب، أو بمحذوف، فيكون في موضع الحال من الكتاب، أي مصحوبا بالحق، وتكون حالا مؤكدة لأن كتب الله المنزلة يصحبها الحق ولا يفارقها، وهذه الجملة معطوفة على قوله: * (فبعث الله) *.
ولا يقال: إن البشارة والنذارة إنما يكونان بالأمر والنهي، وهما إنما يستفادان من إنزال الكتب فلم قدما على الإنزال مع أنهما ناشئان عنه؟ لأنه ذلك لا يلزم، لأن البشارة والنذارة قد يكونان ناشئين عن غير الكتب من وحي الله لنبيه دون أن يكون ذلك كتابا يتلى ويكتب، ولو سلم ذلك لكان تقديمهما هو الأولى لأنهما حالان من النبيين. فناسب اتصالهما بهم، وإن كانا ناشئين عن إنزال الكتب.
وقال القاضي: الوعد والوعيد من الأنبياء عليهم السلام قبل بيان الشرع ممكن فيما يتصل بالعقليات من معرفة الله تعالى، وترك الظلم وغيرهما، انتهى كلامه.
وما ذكر لا يظهر، لأن الوعد بالثواب والوعيد بالعقاب ليسا مما يقضي بهما العقل وحده على جهة الوجوب، وإنما ذلك على سبيل الجواز، ثم أتى الشرع بهما، فصار ذلك الجائز في العقل واجبا بالشرع، وما كان بجهة الإمكان العقلي لا يتصف به النبي على سبيل الوجوب إلا بعد الوحي قطعا، فإذن يتقدم الوحي بالوعد والوعيد على ظهور البشارة والنذارة ممن أوحى إليه قطعا.
قال القاضي: وظاهر
(١٤٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 139 140 141 142 143 144 145 146 147 148 149 ... » »»