أعذر من أنذر، أي أقام عذر نفسه في تقديم نذارته. والمعنى: أن من عمره الله ستين سنة لم يبق له عذر، لان الستين قريب من معترك المنايا، وهو سن الإنابة والخشوع وترقب المنية ولقاء الله تعالى، ففيه إعذار بعد إعذار، الأول بالنبي صلى الله عليه وسلم، والموتان (1) في الأربعين والستين. قال علي وأبن عباس وأبو هريرة في تأويل قوله تعالى " أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر ": إنه ستون سنة. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في موعظته: (ولقد أبلغ في الاعذار من تقدم في الانذار وإنه لينادي مناد من قبل الله تعالى أبناء الستين " أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير "). وذكر الترمذي الحكيم من حديث عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان يوم القيامة نودي أبناء الستين وهو العمر الذي قال الله " أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر "). وعن ابن عباس أيضا أنه أربعون سنة. وعن الحسن البصري ومسروق مثله. ولهذا القول أيضا وجه، وهو صحيح، والحجة له قوله تعالى: " حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة " (2) [الأحقاف 15] الآية. ففي الأربعين تناهي العقل، وما قبل ذلك وما بعده منتقص عنه (3)، والله أعلم. وقال مالك: أدركت أهل العلم ببلدنا وهم يطلبون الدنيا والعلم ويخالطون الناس، حتى يأتي لأحدهم أربعون سنة، فإذا أتت عليهم اعتزلوا الناس واشتغلوا بالقيامة حتى يأتيهم الموت. وقد مضى هذا المعنى في سورة " الأعراف " (4). وخرج ابن ماجة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من تجاوز ذلك).
قوله تعالى: (وجاءكم النذير) وقرئ " وجاءتكم النذر " واختلف فيه، فقيل القرآن.
وقيل الرسول، قاله زيد بن علي وابن زيد. وقال ابن عباس وعكرمة وسفيان ووكيع والحسين ابن الفضل والفراء والطبري: هو الشيب. وقيل: النذير الحمى. وقيل: موت الأهل والأقارب. وقيل: كمال العقل. والنذير بمعنى الانذار.