على قولين: أحدهما: - أنهم صرفوا على القدرة عليه، ولو تعرضوا له لعجزوا عنه. الثاني - أنهم صرفوا عن التعرض له مع كونه في مقدورهم، ولو تعرضوا له لجاز أن يقدروا عليه.
قال ابن عطية: " وجه التحدي في القرآن إنما هو بنظمه وصحة معانيه، وتوالي فصاحة ألفاظه. ووجه إعجازه: أن الله تعالى قد أحاط بكل شئ علما، وأحاط بالكلام كله علما، فعلم بإحاطته أي لفظه تصلح أن تلي الأولى، وتبين المعنى بعد المعنى، ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره، والبشر معهم الجهل والنسيان والذهول، ومعلوم ضرورة أن بشرا لم يكن محيطا قط، بهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة. وبهذا النظر يبطل قوال من قال: إن العرب كان في قدرتها إن تأتي بمثل القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم صرفوا عن ذلك، وعجزوا عنه. والصحيح أن الإتيان بمثل القرآن لم يكن قط في قدرة أحد من المخلوقين، ويظهر لك قصور البشر في أن الفصيح منهم يضع خطبة أو قصيدة يستفرغ فيها جهده، ثم لا يزال ينقحها حولا كاملا، ثم تعطى لآخر بعده فيأخذها بقريحة جامة فيبدل فيها وينقح، ثم لا تزال بعد ذلك فيها مواضيع للنظر والبدل، وكتاب الله تعالى لو نزعت منه لفظه، ثم أدير لسان العرب أن يوجد أحسن منها لم يوجد ".
ومن فصاحة القرآن أن اله تعالى جل ذكره، ذكر في آية واحدة أمرين، ونهيين، وخبرين، وبشارتين وهو قوله تعالى: " وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه (1) الآية. وكذلك فاتحة سورة المائدة: أمر بالوفاء ونهى عن النكث، وحلل تحليلا عاما، ثم استثنى استثناء بعد استثناء، ثم أخبر عن حكمته وقدرته، وذلك مما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه، وأنبأ سبحانه عن الموت، وحسرة الفوت، والدار الآخرة وثوابها وعقابها، وفوز الفائزين، وتردى المجرمين، والتحذير من الاغترار بالدنيا، ووصفها بالقلة بالإضافة إلى دار البقاء بقوله تعالى:
" كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة (2) " الآية. وأنبأ أيضا عن قصص الأولين والآخرين ومآل المترفين، وعواقب المهلكين، في شطر آية وذلك في قوله تعالى: " فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم