خلفهم فانصرفوا فلم يجدوا إليه سبيلا. فذلك قوله: " وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا " الآية.
وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرء في المسجد فيجهر بالقراءة حتى تأذى به ناس من قريش حتى قاموا ليأخذوه وإذا أيديهم مجموعة إلى أعناقهم وإذا هم لا يبصرون فجاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ننشدك الله والرحم يا محمد ولم يكن بطن من بطون قريش إلا وللنبي صلى الله عليه وسلم فيهم قرابة فدعا النبي صلى الله عليه وسلم حتى ذهب ذلك عنهم فنزلت: " يس والقرآن الحكيم - إلى قوله - أم لم تنذرهم لا يؤمنون ". قال: فلم يؤمن من ذلك النفر أحد.
أقول: وقد رووا القصة بأشكال مختلفة في بعضها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرء الآيات فاحتجب منهم فلم يروه ودفع الله عنه شرهم وكيدهم، وفي بعضها أن الآيات - من أول السورة إلى قوله: " فهم لا يؤمنون " - نزلت في القصة فقوله: " إنا جعلنا " إلى آخر الآيتين يقص صنع الله بهم في ستر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أبصارهم وقوله:
" وسواء عليهم " الخ يخبر عن عدم إيمان ذاك النفر.
وأنت خبير بأن سياق الآيات يأبى الانطباق على هذه الروايات بما فيها من القصة فهو سياق متناسق منسجم يصف حال طائفتين من الناس وهم الذين حق عليهم القول فهم لا يؤمنون والذين يتبعون الذكر ويخشون ربهم بالغيب.
وأين ذلك من حمل قوله: " لقد حق القول على أكثرهم " على الناس المنذرين وحمل قوله: " إنا جعلنا في أعناقهم " و " جعلنا من بين أيديهم سدا " الآيتين على قصة أبي جهل ورهطه، وحمل قوله: " وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم " على رهطه وأضف إلى ذلك حمل قوله: " ونكتب ما قدموا وآثارهم " على قصة قوم من الأنصار بالمدينة وسيوافيك خبره فيختل بذلك السياق وتنثلم وحدة النظم.
فالحق أن الآيات نازلة دفعة ذات سياق واحد تصف حال الناس وتفرقهم عند بلوغ الدعوة ووقوع الانذار على فرقتين، ولا مانع من وقوع القصة واحتجاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أعدائه بالآيات.
وفيه أخرج عبد الرزاق والترمذي وحسنه والبزار وابن جرير وابن المنذر