وقوله: " الله نور السماوات والأرض " النور معروف وهو الذي يظهر به الأجسام الكثيفة لأبصارنا فالاشياء ظاهرة به وهو ظاهر مكشوف لنا بنفس ذاته فهو الظاهر بذاته المظهر لغيره من المحسوسات البصر. هذا أول ما وضع عليه لفظ النور ثم عمم لكل ما ينكشف به شئ من المحسوسات على نحو الاستعارة أو الحقيقة الثانية فعد كل من الحواس نورا أو ذا نور يظهر به محسوساته كالسمع والشم والذوق واللمس.
ثم عمم لغير المحسوس فعد العقل نورا يظهر به المعقولات كل ذلك بتحليل معنى النور المبصر إلى الظاهر بذاته المظهر لغيره.
وإذ كان وجود الشئ هو الذي يظهر به نفسه لغيره من الأشياء كان مصداقا تاما للنور، ثم لما كانت الأشياء الممكنة الوجود إنما هي موجودة بإيجاد الله تعالى كان هو المصداق الأتم للنور فهناك وجود ونور يتصف به الأشياء وهو وجودها ونورها المستعار المأخوذ منه تعالى ووجود ونور قائم بذاته يوجد ويستنير به الأشياء.
فهو سبحانه نور يظهر به السماوات والأرض، وهذا هو المراد بقوله: " الله نور السماوات والأرض " حيث أضيف النور إلى السماوات والأرض ثم حمل على اسم الجلالة، وعلى هذا ينبغي أن يحمل قول من قال: إن المعنى الله منور السماوات والأرض، وعمدة الغرض منه أن ليس المراد بالنور النور المستعار القائم بها وهو الوجود الذي يحمل عليها تعالى الله عن ذلك وتقدس.
ومن ذلك يستفاد أنه تعالى غير مجهول لشئ من الأشياء إذ ظهور كل شئ لنفسه أو لغيره إنما هو عن إظهاره تعالى فهو الظاهر بذاته له قبله، وإلى هذه الحقيقة يشير قوله تعالى بعد آيتين: " ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه " إذ لا معنى للتسبيح والعلم به وبالصلاة مع الجهل بمن يصلون له ويسبحونه فهو نظير قوله: " وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم " أسرى: 44، وسيوافيك البحث عنه إن شاء الله.
فقد تحصل أن المراد بالنور في قوله: " الله نور السماوات والأرض " نوره تعالى من حيث يشرق منه النور العام الذي يستنير به كل شئ وهو مساو لوجود كل شئ وظهوره في نفسه ولغيره وهي الرحمة العامة.