تفسير الميزان - السيد الطباطبائي - ج ١٤ - الصفحة ٣٦٠
له كثير من الناس، وإسناد السجود إلى كثير من الناس بعد شموله في الجملة السابقة لجميعهم دليل على أن المراد بهذا السجود نوع آخر من السجود غير السابق وإن كانا مشتركين في أصل معنى التذلل، وهذا النوع هو السجود التشريعي الاختياري بالخرور على الأرض تمثيلا للسجود والتذلل التكويني الاضطراري وإظهارا لمعنى العبودية.
وقوله: " وكثير حق عليهم لعذاب " المقابلة بينه وبين سابقه يعطي أن معناه وكثير منهم يأبى عن السجود، وقد وضع موضعه ما هو أثره اللازم المترتب عليه وهو ثبوت العذاب على من استكبر على الله وأبى أن يخضع له تعالى، وإنما وضع ثبوت العذاب موضع الاباء عن السجدة للدلالة على أنه هو عملهم يرد إليهم، وليكون تمهيدا لقوله تلوا: " ومن يهن الله فما له من مكرم " الدال على أن ثبوت العذاب لهم إثر إبائهم عن السجود هو ان وخزي يتصل بهم ليس بعده كرامة وخير.
فإباؤهم عن السجود يستتبع بمشية الله تعالى ثبوت العذاب لهم وهو إهانة ليس بعده إكرام أبدا إذ الخير كله بيد الله كما قال، " بيدك الخير " آل عمران: 26 فإذا منعه أحدا لم يكن هناك من يعطيه غيره.
وقوله: " إن الله يفعل ما يشاء " كناية عن عموم القدرة وتعليل لما تقدمه من حديث إثباته العذاب للمستكبرين عن السجود له وإهانتهم إهانة لا إكرام بعده.
فالمعنى - والله أعلم - أن الله يميز يوم القيامة بين المختلفين فإنك تعلم أن الموجودات العلوية والسفلية يخضعون ويتذللون له تكوينا لكن الناس بين من يظهر في مقام العبودية الخضوع والتذلل له وبين من يستكبر عن ذلك وهؤلاء هم الذين حق عليهم العذاب وأهانهم الله إهانة لا إكرام بعده وهو قادر على ما يشاء فعال لما يريد، ومن هنا يظهر أن للآية اتصالا بما قبلها.
قوله تعالى: " هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم " الإشارة بقوله: " هذان " إلى القبيلين الذين دل عليهما قوله سابقا: " إن الله يفصل بينهم يوم القيامة " وقوله بعده: " وكثير من الناس وكثير حق عليهم العذاب ".
ويعلم من حصر المختلفين على كثرة أديانهم ومذاهبهم في خصمين اثنين أنهم جميعا منقسمون إلى محق ومبطل إذ لولا الحق والباطل لم ينحصر الملل والنحل على تشتتها في
(٣٦٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 355 356 357 358 359 360 361 362 363 364 365 ... » »»
الفهرست