" إنا قد أوحى إلينا أن العذاب على من كذب وتولى " والوثنيون منكرون لذلك عدل فرعون عن الكلام في الربوبية - وقد انقطع بما أجاب به موسى - إلى أمر المعاد والسؤال عنه بانيا على الاستبعاد.
فقوله: " فما بال القرون الأولى " أي ما حال الأمم والأجيال الانسانية الماضية التي ماتوا وفنوا لاخبر عنهم ولا أثر كيف يجزون بأعمالهم ولا عامل في الوجود ولا عمل وليسوا اليوم إلا أحاديث وأساطير؟ فالآية نظيرة ما نقل عن المشركين في قوله:
" وقالوا أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد: ألم السجدة: 10، وظاهر الكلام أنه مبنى على الاستبعاد من جهة انتفاء العلم بهم وبأعمالهم للموت والفوت كما يشهد به جواب موسى عليه السلام.
قوله تعالى: " قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى " أجاب عليه السلام عن سؤاله بإثبات علمه تعالى المطلق بتفاصيل تلك القرون الخالية فقال: " علمها عند ربي " فأطلق العلم بها فلا يفوته شئ من أشخاصهم وأعمالهم وجعلها عند الله فلا تغيب عنه ولا تفوته، وقد قال تعالى: وما عند الله باق " ثم قيد ذلك بقوله: " في كتاب " - وكأنه حال من العلم - ليؤكد به أنه مثبت محفوظ من غير أن يتغير عن حاله وقد نكر الكتاب ليدل به على فخامة أمره من جهة سعة إحاطته ودقتها فلا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
فيؤول معنى الكلام إلى أن جزاء القرون الأولى إنما يشكل لو جهل ولم يعلم بها لكنها معلومة لربى محفوظة عنده في كتاب لا يتطرق إليه خطأ ولا تغيير ولا غيبة وزوال.
وقوله: " لا يضل ربى ولا ينسى " نفى للجهل الابتدائي والجهل بعد العلم على ما نقل عن بعضهم ولكن الظاهر أن الجملة مسوقة لنفي الجهل بعد العلم بقسميه فإن الضلال هو قصد الغاية بسلوك سبيل لا يؤدي إليها بل إلى غيرها فيكون الضلال في العلم هو أخذ الشئ مكان غيره وإنما يتحقق ذلك بتغير المعلوم من حيث هو معلوم عما كان عليه في العلم أولا، والنسيان خروج الشئ من العلم بعد دخوله فيه فهما معا من الجهل بعد العلم، ونفيه هو المناسب لاثبات العلم أولا فيفيد مجموع الآية أنه عالم بالقرون الأولى ولا سبيل إليه للجهل بعد العلم فيجازيهم على ما علم.