والأقوم افعل تفضيل والأصل في الباب القيام ضد القعود الذي هو أحد أحوال الانسان وأوضاعه، وهو اعدل حالاته يتسلط به على ما يريده من العمل بخلاف القعود والاستلقاء والانبطاح ونحوها ثم كنى به عن حسن تصديه للأمور إذا قوى عليها من غير عجز وعى وأحسن ادارتها للغاية يقال: قام بأمر كذا إذا تولاه وقام على أمر كذا أي راقبه وحفظه وراعى حاله بما يناسبه.
وقد وصف الله سبحانه هذه الملة الحنيفية بالقيام كما قال: (فاقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) الروم: 30، وقال: (فاقم وجهك للدين القيم) الروم: 43.
وذلك لكون هذا الدين مهيمنا على ما فيه خير دنياهم وآخرتهم قيما على اصلاح حالهم في معاشهم ومعادهم، وليس الا لكونه موافقا لما تقتضيه الفطرة الانسانية والخلقة التي سواه الله سبحانه عليها وجهزه بحسبها بما يهديه إلى غايته التي أريدت له، وسعادته التي هيئت لأجله.
وعلى هذا فوصف هذه الملة في قوله: (للتي هي أقوم) بأنها أقوم ان كان بقياسها إلى سائر الملل انما هو من جهة ان كلا من تلك الملل سنة حيوية اتخذها ناس لينتفعوا بها في شئ من أمور حياتهم لكنها ان كان تنفعهم في بعضها فهى تضرهم في بعض آخر وان كانت تحرز لهم شطرا مما فيه هواهم فهى تفوت عليهم شطرا عظيما مما فيه خيرهم وانما ذلك الاسلام يقوم على حياتهم وبجميع ما يهمهم في الدنيا والآخرة من غير أن يفوته فائت فالملة الحنيفية أقوم من غيرها على حياة الانسان.
وان كان بالقياس إلى سائر الشرائع الإلهية السابقة كشريعة نوح وموسى وعيسى عليه السلام كما هو ظاهر جعلها مما يهدى إليها القرآن قبال ما تقدم من ذكر التوراة وجعلها هدى لبني إسرائيل فإنما هو من جهة ان هذه الملة الحنيفية أكمل من الملل السابقة التي تتضمنها كتب الأنبياء السابقين فهى تشتمل من المعارف الإلهية على آخر ما تتحمله البنية الانسانية ومن الشرائع على ما لا يشذ منه شاذ من اعمال الانسان الفردية والاجتماعية، وقد قال تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه) المائدة: 48 فما يهدى إليه القرآن أقوم مما يهدى إليه غيره من الكتب.