وقوله. " قال لن تراني " نفي مؤبد للرؤية، وإذ أثبت الله سبحانه الرؤية بمعنى العلم الضروري في الآخرة كان تأبيد النفي راجعا إلى تحقق ذلك في الدنيا ما دام للانسان اشتغال بتدبير بدنه، وعلاج ما نزل به من أنواع الحوائج الضرورية، والانقطاع إليه تعالى بتمام معنى الكلمة لا يتم إلا بقطع الرابطة عن كل شئ حتى البدن وتوابعه وهو الموت.
فيؤل المعنى إلى أنك لن تقدر على رؤيتي والعلم الضروري بي في الدنيا حتى تلاقيني فتعلم بي علما اضطراريا تريده، والتعبير في قوله: " لن تراني " به " لن " الظاهر في تأبيد النفي لا ينافي ثبوت هذا العلم الضروري في الآخرة فالانتفاء في الدنيا يقبل التأبيد أيضا كما في قوله تعالى: " أنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا " أسرى : 37، وقوله: " أنك لن تستطيع معي صبرا " الكهف: 67.
ولو سلم أنه ظاهر في تأبيد النفي للدنيا والآخرة جميعا فإنه لا يأبى التقييد كقوله تعالى: " ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم " البقرة: 120، فلم لا يجوز أن تكون أمثال قوله تعالى: " وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة " مقيدة لهذه الآية مبينة لمعنى التأبيد المستفاد منها.
والذي ذكرناه من رجوع نفي الرؤية في قوله: " لن تراني " إلى نفي الطاقة والاستطاعة يؤيده قوله بعده: " ولكن أنظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني " فإن فيه تنظير إراءة نفسه لموسى عليه السلام بتجليه للجبل، والمراد أن ظهوري وتجليي للجبل مثل ظهوري لك فإن استقر الجبل مكانه أي بقى على ما هو عليه وهو جبل عظيم في الخلقة قوي في الطاقة فإنك أيضا يرجى أن تطيق تجلي ربك وظهوره.
فقوله: " ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني " ليس باستدلال على استحالة التجلي كيف وقد تجلى له؟ بل إشهاد وتعريف لعدم استطاعته وإطاقته للتجلي وعدم استقراره مكانه أي بطلان وجوده لو وقع التجلي كما بطل الجبل بالدك.
وقد دل عليه قوله: " فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا " وبصيرورة الجبل دكا أي مدكوكا متحولا إلى ذرات ترابية صغار بطلت هويته وذهبت جبليته وقضى أجله.