ومن كان هذا شأنه لم يبعد أن ينفى نزول كتاب سماوي على بشر لداع من الدواعي الفاسدة الباعثة له على إنكار ما يستضر بثبوته أو تلقين الغير باطلا يعلم ببطلانه لينتفع به في بعض مقاصده الباطلة.
وأما قول من قال: إن القرآن لم يعتن بأمر أهل الكتاب في آياته النازلة بمكة وإنما كانت الدعوة بمكة قبل الهجرة إلى المشركين للابتلاء بجماعتهم والدار دارهم، ففيه أن ذلك لا يوجب السكوت عنهم من رأس والدين عام ودعوته شاملة لجميع الناس والقرآن ذكر للعالمين وهم والمشركون جيران يمس بعضهم بعضا دائما وقد جاء ذكر أهل الكتاب في بعض السور المكية من غير دليل ظاهر على كون الآية مدنية كقوله تعالى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم) (العنكبوت: 46) وقوله:
(وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) (النحل: 118) وقد ذكر في سورة الأعراف كثير من مظالم بني إسرائيل مع كون السورة مكية.
ومن المستبعد أن تدوم الدعوة الاسلامية سنين قبل الهجرة وفي داخل الجزيرة طوائف من اليهود والنصارى فلا يصل خبرها إليهم أو يصل إليهم فيسكتوا عنها ولا يقولوا شيئا لها أو عليها وقد هاجر جماعة من المسلمين إلى الحبشة وقرأوا سورة مريم المكية عليهم وفيها قصة عيسى ونبوته.
وأما قول من قال: إن السورة - يعنى سورة الأنعام - إنما نزلت في الاحتجاج على المشركين في توحيد الله سبحانه وعامة الخطابات الواردة فيها متوجهة إليهم فلا مسوغ لارجاع الضمير في قوله: (إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ) إلى اليهود بل المتعين إرجاعه إلى مشركي العرب لان الكلام في سياق الخبر عنهم، ولم يجر لليهود ذكر في هذه السورة فلا يجوز أن تصرف الآية عما يقتضيه سياقها من أولها إلى هذا الموضع بل إلى آخرها بغير حجة من خبر صحيح أو عقل فالأرجح قراءة (يجعلونه) الخ، بياء الغيبة على معنى أن اليهود يجعلونه فهو حكاية عنهم ذكرت في خطاب مشركي العرب.
وأما مشكلة أن المشركين ما كانوا يذعنون بكون التوراة كتابا سماويا فكيف يحاجون بها فقد أجاب عنه بعضهم: أن المشركين كانوا يعلمون أن اليهود أصحاب التوراة