بالنظر إلى الآيات السابقة الواصفة لهدايته تعالى أنبياءه المستعقبة لايتائهم الكتاب والحكم والنبوة، وعنايته الكاملة بحفظ كلمة الحق ونعمة الهداية بين الناس زمانا بعد زمان وجيلا بعد جيل أن تحمل على المعنى الأول فإن في إنكار إنزال الوحي حطا لقدره تعالى وإخراجا له من منزلة الربوبية المعتنية بشؤون عباده وهدايتهم إلى هدفهم من السعادة والفلاح.
ويؤيد ذلك ما ورد من نظير اللفظ في قوله تعالى: (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون) (الزمر: 67). وقوله تعالى: (إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب، ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوى عزيز) (الحج: 74) أي وقوته وعزته وضعف غيره وذلته تقتضيان أن لا يحط قدره ولا يسوى هو وما يدعون من دونه بتسمية الجميع آلهة وأربابا فالأنسب بالآية هو المعنى الأول وإن لم يمتنع المعنيان الآخران، وأما تفسير (ما قدروا الله حق قدره) بأن المراد: ما أعطوه من القدرة ما هو حقها كما فسره بعضهم فأبعد المعاني المحتملة من مساق الآية.
ولما قيد قوله تعالى: (وما قدروا الله حق قدره) بالظرف الذي في قوله: (إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ) أفاد ذلك أن اجتراءهم على الله سبحانه وعدم تقديرهم حق قدره إنما هو من حيث إنهم نفوا إنزال الوحي والكتاب منه تعالى على بشر فدل ذلك على أن من لوازم الألوهية وخصائص الربوبية أن ينزل الوحي والكتاب لغرض هداية الناس إلى مستقيم الصراط والفوز بسعادة الدنيا والآخرة فهى الدعوى. وقد أشار تعالى إلى إثبات هذه الدعوى والحجاج له بقوله: (قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى) الخ، وبقوله: (وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم) والأول من القولين احتجاج بكتاب من الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء عليهم السلام الثابتة نبوتهم بالمعجزات الباهرة التي أتوا بها ففيه تمسك بوجود الهداية الإلهية المتصلة المحفوظة بين الناس بالأنبياء عليهم السلام نوح ومن بعده، وهى التي وصفها الله تعالى في الآيات السابقة من قوله:
(وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر - إلى قوله - إن هو إلا ذكرى للعالمين).