من إشعار بأن هذا الجعل إنما هو بتمثل الملك في صورة الانسان دون انقلاب هويته إلى هوية الانسان كما قيل.
وغالب المفسرين وجهوا الآية بأن المراد: أنهم لما كانوا لا يطيقون رؤية الملك في صورته الأصلية لتوغلهم في عالم المادة فلو ارسل إليهم ملك لم يكن بد من تمثله لهم بشرا سويا، وحينئذ كان يبدو لهم من اللبس والشبهة ما يبدو مع الرسول من البشر ولم ينتفعوا به شيئا.
وهذا التوجيه لا يفي باستقامة الجواب، وإن سلمنا أن الانسان العادي لا تسعه مشاهدة الملائكة في صورهم الأصلية بالاستناد إلى أمثال قوله تعالى: (يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين) (الفرقان: 22).
وذلك أن شهود الملك في صورته الأصلية لو كان محالا على الانسان لم يختلف فيه حال الافراد الانسانية بالجواز والامتناع، وقد ورد في روايات الفريقين أن النبي صلى الله عليه وآله رأى جبرئيل في صورته الأصلية مرتين، ومن المقدور لله أن يقوى سائر الناس على ما قوى عليه نبيه فيعاينوهم ويؤمنوا بهم، ولا محذور فيه بحسب الحكمة إلا محذور الالجاء فهو المحذور الذي يجب أن يدفع بالآية كما تقدم.
وكذا مشاهدة الملك في صورة الآدميين لا تلازم جواز ا لشك واللبس فإن الله سبحانه يخبر عن إبراهيم ولوط عليهم السلام أنهما عاينا الملائكة في صورة الآدميين ثم عرفهم ولم يشكا في أمرهم، وكذا أخبر عن مريم انها شاهدت الروح ثم عرفته ولم تشك فيه ولا التبس عليها أمره فلم لم يكن من الجائز أن يكون حال سائر الناس حالهم عليهم السلام في معاينة الملك في صورة الانسان ثم معرفته واليقين بأمره؟ لولا أن جعل نفوس الناس جمعيا كنفس إبراهيم ولوط ومريم يستلزم إمحاء غرائزهم وفطرهم، وتبديلها نفوسا طاهرة قادسة، وفيه محذور الالجاء، فالالجاء هو المحذور الذي لا يبقى معه موضوع الامتحان، وهو الذي يجب دفعه بالآية كما تقدم.
قوله تعالى: (ولقد استهزئ برسل من قبلك) إلى آخر الآيتين، الحيق الحلول والإصابة، وفي مفردات: الراغب: قيل وأصله حق فقلب نحو زل وزال، وقد قرئ:
(فأزلهما الشيطان) فأزالهما، وعلى هذا ذمه وذامه، انتهى.