على أن كل من يرعى نظره في آيات القرآن من أوله إلى آخره لا يشك في أن ليس بينها آية لها مدلول وهي لا تنطق بمعناها وتضل في مرادها بل ما من آية إلا وفيها دلالة على المدلول: إما مدلول واحد لا يرتاب فيه العارف بالكلام أو مداليل يلتبس بعضها ببعض وهذه المعاني الملتبسة لا تخلو عن حق المراد بالضرورة وإلا بطلت الدلالة كما عرفت وهذا المعنى الواحد الذي هو حق المراد لا محالة لا يكون أجنبيا عن الأصول المسلمة في القرآن كوجود الصانع وتوحيده وبعثة الأنبياء وتشريع الاحكام والمعاد ونحو ذلك بل هو موافق لها وهي تستلزمه وتنتجه وتعين المراد الحق من بين المداليل المتعددة المحتملة فالقرآن بعضه يبين بعضا وبعضه أصل يرجع إليه البعض الآخر.
ثم إن هذا الناظر إذا عثر بعد هذه النظرة على قوله تعالى منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات لم يشك في أن المراد بالمحكمات هي الآيات المتضمنة للأصول المسلمة من القرآن وبالمتشابهات الآيات التي تتعين وتتضح معانيها بتلك الأصول.
فان قلت: رجوع الفروع إلى الأصول مما لا ريب فيه فيما كان هناك أصول متعرقة وفروع متفرقة سواء فيه المعارف القرآنية وغيرها لكن ذلك لا يستوجب حصول التشابه فما وجه ذلك؟
قلت وجهه أحد أمرين فإن المعارف التي يلقيها القرآن على قسمين: فمنها معارف عالية خارجة عن حكم الحس والمادة والافهام العادية لا تلبث دون أن تتردد فيها بين الحكم الجسماني الحسي وبين غيره كقوله تعالى: " إن ربك لبالمرصاد " الفجر - 14 وقوله تعالى: " وجاء ربك " الفجر - 22. فيتبادر منها إلى الذهن المستأنس بالمحسوس من الاحكام معان هي من أوصاف الأجسام وخواصها وتزول بالرجوع إلى الأصول التي تشتمل على نفي حكم المادة والجسم عن المورد وهذا مما يطرد في جميع المعارف والابحاث غير المادية والغائبة عن الحواس ولا يختص بالقرآن الكريم بل يوجد في غيره من الكتب السماوية بما تشتمل عليه من المعارف العالية من غير تحريف ويوجد أيضا في المباحث الإلهية من الفلسفة وهو الذي يشير إليه القرآن بلسان آخر في قوله تعالى:
" انزل من السماء ماءا؟؟ فسالت أودية بقدرها الآية " الرعد - 17 وقوله: " إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم " الزخرف - 4