الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٤ - الصفحة ٥٢
إذا رجت الأرض رجا. وبست الجبال بسا. فكانت هباء منبثا. وكنتم أزواجا ثلاثة. فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة. وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة. والسابقون السابقون. أولئك المقربون. في جنات النعيم.
____________________
الدركات والسعداء يرفعون إلى الدرجات، وإما أنها تزلزل الأشياء وتزيلها عن مقارها فتخفض بعضا وترفع بعضا حيث تسقط السماء كسفا وتنتثر الكواكب وتتكدر وتسير الجبال فتمر في الجو مر السحاب، وقرئ خافضة رافعة بالنصب على الحال (رجت) حركت تحريكا شديدا حتى ينهدم كل شئ فوقها من جبل وبناء (وبست الجبال) وفتت حتى تعود كالسويق أو سيقت، من بس الغنم إذا ساقها كقوله - وسيرت الجبال - (منبثا) متفرقا، وقرئ بالتاء أي منقطعا. وقرئ رجت وبست: أي ارتجت وذهبت، وفى كلام بنت الخس: عينها هاج وصلاها راج وهى تمشى وتفاج. فإن قلت: بم انتصب إذا رجت؟ قلت: هو بدل من إذا وقعت، ويجوز أن ينتصب بخافضة رافعة: أي تخفض وترفع وقت رج الأرض وبس الجبال، لأنه عند ذلك ينخفض ما هو مرتفع ويرتفع ما هو مخفض (أزواجا) أصنافا، يقال للأصناف التي بعضها مع بعض أو يذكر بعضها مع بعض أزواج (فأصحاب الميمنة) الذين يؤتون صحائفهم بأيمانهم (وأصحاب المشأمة) الذين يؤتونها بشمائلهم، أو أصحاب المنزلة السنية وأصحاب المنزلة الدنية، ومن قولك فلان منى باليمين وفلان منى بالشمال إذا وصفتهما بالرفعة عندك والضعة وذلك لتيمنهم بالميامن وتشاؤمهم بالشمائل ولتفاؤلهم بالسانح وتطيرهم من البارح، ولذلك اشتقوا لليمين الاسم من اليمن وسموا الشمال الشؤمى، وقيل أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة أصحاب اليمن والشؤم لأن السعداء ميامين على أنفسهم بطاعتهم والأشقياء مشائيم عليها بمعصيتهم. وقيل يؤخذ بأهل الجنة ذات اليمين وبأهل النار ذات الشمال (والسابقون) المخلصون الذين سبقوا إلى ما دعاهم الله إليه وشقوا الغبار في طلب مرضاة الله عز وجل. وقيل الناس ثلاثة: فرجل ابتكر الخير في حداثة سنه ثم داوم عليه حتى خرج من الدنيا فهذا السابق المقرب، ورجل ابتكر عمره بالذنب وطول الغفلة ثم تراجع بتوبة فهذا صاحب اليمين، ورجل ابتكر الشر في حداثة سنه ثم لم يزل عليه حتى خرج من الدنيا فهذا صاحب الشمال. ما أصحاب الميمنة وما أصحاب المشأمة تعجيب من حال الفريقين في السعادة والشقاوة. والمعنى: أي شئ هم. (والسابقون السابقون) يريد والسابقون من عرفت حالهم وبلغك وصفهم كقوله وعبد الله عبد الله، وقول أبى النجم * وشعرى شعري * كأنه قال: وشعرى ما انتهى إليك وسمعت بفصاحته وبراعته، وقد جعل السابقون تأكيدا وأولئك المقربون خبرا وليس بذاك. ووقف بعضهم على والسابقون وابتدأ السابقون أولئك المقربون، والصواب أن يوقف على الثاني لأنه تمام الجملة وهو في مقابلة ما أصحاب الميمنة وما أصحاب المشأمة (المقربون في جنات النعيم) الذين قربت درجاتهم في الجنة من العرش وأعليت مراتبهم وقرئ في جنة النعيم. والثلة الأمة من الناس الكثيرة،
(٥٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 ... » »»