الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٤ - الصفحة ٥٧
أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون. لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون. إنا لمغرمون بل نحن محرومون. أفرأيتم الماء الذي تشربون. أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون. لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون. أفرأيتم النار التي تورون.
____________________
من الطعام أي تبذرون حبه وتعملون في أرضه (أأنتم تزرعونه) تنبتونه وتردونه نباتا يرف وينمى إلى أن يبلغ الغاية وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يقولن أحدكم زرعت وليقل حرثت. قال أبو هريرة أرأيتم إلى قوله - أفرأيتم - الآية " والحطام من حطم كالفتات، والجذاذ من فت وجذ وهو ما صار هشيما وتحطم (فظلتم) وقرئ بالكسر وفظللتم على الأصل (تفكهون) تعجبون. وعن الحسن رضي الله عنه: تندمون على تعبكم فيه وإنفاقكم عليه، أو على ما اقترفتم من المعاصي التي أصبتم بذلك من أجلها، وقرئ تفكنون، ومنه الحديث " مثل العالم كمثل الحمة يأتيها البعداء ويتركها القرباء، فبينا هم إذ غار ماؤها فانتفع بها قوم وبقى قوم يتفكنون: أي يتندمون " (إنا لمغرمون) لملزمون غرامة ما أنفقنا أو مهلكون لهلاك رزقنا من الغرام وهو الهلاك (بل نحن) قوم (محرومون) محارفون محدودون لاحظ لنا ولا بخت لنا، ولو كنا مجدودين لما جرى علينا هذا، وقرئ أئنا (الماء الذي تشربون) يريد الماء العذب الصالح للشرب، و (المزن) السحاب الواحدة مزنة، وقيل هو السحاب الأبيض خاصة وهو أعذب ماء (أجاجا) ملحا زعاقا لا يقدر على شربه. فإن قلت: لم أدخلت اللام على جواب لو في قوله - لجعلناه حطاما - ونزعت منه ههنا؟ قلت: إن لو لما كانت داخلة على جملتين معلقة ثانيتهما بالأولى تعلق الجزاء بالشرط ولم تكن مخلصة للشرط كإن ولا عاملة مثلها، وإنما سرى فيها معنى الشرط اتفاقا من حيث إفادتها في مضموني جملتيها أن الثاني امتنع لامتناع الأول افتقرت في جوابها إلى ما ينصب علما على هذا التعلق فزيدت هذه اللام لتكون علما على ذلك، فإذا حذفت بعد ما صارت علما مشهورا مكانه فلأن الشئ إذا علم وشهر موقعه وصار مألوفا ومأنوسا به لم يبال بإسقاطه عن اللفظ استغناء بمعرفة السامع، ألا ترى إلى ما يحكى عن رؤبة أنه كان يقول خير لمن قال له كيف أصبحت، فحذف الجار لعلم كل أحد بمكانه وتساوى حالي حذفه وإثباته لشهرة أمره، وناهيك بقول أوس:
حتى إذا الكلاب قال لها * كاليوم مطلوبا ولا طلبا وحذفه لم أر، فإذن حذفها اختصار لفظي وهى ثابتة في المعنى فاستوى الموضعان بلا فرق بينهما، على أن تقدم ذكرها والمسافة قصيرة مغن عن ذكرها ثانية ونائب عنه. ويجوز أن يقال إن هذه اللام مفيدة معنى التوكيد لا محالة، فأدخلت في آية المطعوم دون آية المشروب للدلالة على أن أمر المطعوم مقدم على أمر المشروب، وأن الوعيد بفقده أشد وأصعب من قبل أن المشروب إنما يحتاج إليه تبعا للمطعوم، ألا ترى أنك إنما تسقى ضيفك بعد أن تطعمه ولو عكست قعدت تحت قول أبى العلاء:
إذا سقيت ضيوف الناس محضا * سقوا أضيافهم شبما زلالا وسقى بعض العرب فقال: أنا لا أشرب إلا على ثميلة، ولهذا قدمت آية المطعوم على آية المشروب (تورون)
(٥٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 ... » »»