الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٤ - الصفحة ٢٠٩
وفتحت السماء فكانت أبوابا. وسيرت الجبال فكانت سرابا. إن جهنم كانت مرصادا. للطاغين مآبا. لابثين فيها أحقابا. لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا. إلا حميما وغساقا. جزاء وفاقا. إنهم كانوا لا يرجون حسابا. وكذبوا بآياتنا كذابا.
____________________
أبوابا مفتحة كقوله - وفجرنا الأرض عيونا - كأن كلها عيون تتفجر. وقيل الأبواب: الطرق والمسالك: أي تكشط فينفتح مكانها وتصير طرقا لا يسدها شئ (فكانت سرابا) كقوله - فكانت هباء منبثا - يعنى أنها تصير شيئا كلا شئ لتفرق أجزائها وانبثات جواهرها. المرصاد: الحد الذي يكون فيه الرصد، والمعنى: أن جهنم هي حد الطاغين الذي يرصدون فيه للعذاب وهى مآبهم. أو هي مرصاد لأهل الجنة ترصدهم الملائكة الذين يستقبلونهم عندها لان مجازهم عليها وهى مآب للطاغين. وعن الحسن وقتادة نحوه قالا: طريقا وممرا لأهل الجنة. وقرأ ابن يعمر أن جهنم بفتح الهمزة على تعليل قيام الساعة بأن جهنم كانت مرصادا للطاغين كأنه قيل: كان ذلك لإقامة الجزاء. قرئ لابثين ولبثين واللبث أقوى لان اللابث من وجد منه اللبث، ولا يقال لبث إلا لمن شأنه اللبث كالذي يجثم بالمكان لا يكاد ينفك منه (أحقابا) حقبا بعد حقب كلما مضى حقب تبعه آخر إلى غير نهاية، ولا يكاد يستعمل الحقب والحقبة إلا حيث يراد تتابع الأزمنة وتواليها والاشتقاق يشهد لذلك، ألا ترى إلى حقيبة الراكب والحقب الذي وراء التصدير. وقيل الحقب ثمانون سنة ويجوز أن يراد لابثين فيها أحقابا غير ذائقين فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا، ثم يبدلون بعد الأحقاب غير الحميم والغساق من جنس آخر من العذاب. وفيه وجه آخر وهو أن يكون من حقب عامنا إذا قل مطره وخيره، وحقب فلان إذا أخطأه الرزق فهو حقب وجمعه أحقاب فينتصب حالا عنهم: يعنى لابثين فيها حقبين جحدين، وقوله (لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا) تفسير له.
والاستثناء منقطع، يعنى لا يذوقون فيها بردا وروحا ينفس عنهم حر النار ولا شرابا يسكن من عطشهم، ولكن يذوقون فيها حميما وغساقا، وقيل البرد النوم وأنشد:
فلو شئت حرمت النساء سواكم * وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا وعن بعض العرب منع البرد البرد. وقرئ غساقا بالتخفيف والتشديد وهو ما يغسق أي يسيل من صديدهم (وفاقا) وصف بالمصدر أو ذا وفاق، وقرأ أبو حياة وفاقا فعال من وفقه كذا (كذابا) تكذيبا وفعال في باب فعل كله فاش في كلام فصحاء من العرب لا يقولون غيره، وسمعني بعضهم أفسر آية فقال لقد فسرتها فسارا ما سمع بمثله وقرئ بالتخفيف وهو مصدر كذب بدليل قوله:
فصدقتها وكذبتها * والمرء ينفعه كذابه وهو مثل قوله - أنبتكم من الأرض نباتا -: يعنى وكذبوا بآياتنا فكذبوا كذابا أو تنصبه بكذبوا لأنه يتضمن معنى كذبوا لان كل مكذب بالحق كاذب، وإن جعلته بمعنى المكاذبة فمعناه: وكذبوا بآياتنا فكاذبوا مكاذبة أو كذبوا بها مكاذبين، لانهم إذا كانوا عند المسلمين كاذبين وكان المسلمون عندهم كاذبين فبينهم مكاذبة، أو لانهم يتكلمون بما هو إفراط في الكذب فعل من يغالب في أمر فيبلغ فيه أقصى جهده. وقرئ كذابا وهو جمع كاذب أي كذبوا بآياتنا كاذبين، وقد يكون الكذاب بمعنى الواحد البليغ في الكذب، يقال رجل كذاب كقوله
(٢٠٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 204 205 206 207 208 209 210 211 212 213 214 ... » »»