الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٤ - الصفحة ٢٠٨
وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا. لنخرج به حبا ونباتا. وجنات ألفافا. إن يوم الفصل كان ميقاتا. يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا.
____________________
المعصرات الرياح ذوات الأعاصير. وعن الحسن وقتادة: هي السماوات. وتأويله أن الماء ينزل من السماء إلى السحاب، فكأن السماوات يعصرن: أي يحملن على العصر ويمكن منه. فإن قلت: فما وجه من قرأ من المعصرات وفسرها بالرياح ذوات الأعاصير والمطر لا ينزل من الرياح؟ قلت: الرياح هي التي تنشئ السحاب وتدرأ خلافه فصح أن تجعل مبدأ للانزال، وقد جاء " إن الله تعالى يبعث الرياح فتحمل الماء من السماء إلى السحاب " فإن صح ذلك فالانزال منها ظاهر. فإن قلت: ذكر ابن كيسان أنه جعل المعصرات بمعنى المغيثات، والعاصر هو المغيث لا المعصر يقال عصره فاعتصر. قلت: وجهه أن يريد اللاتي أعصرن: أي حان لها أن تعصر أي تغيث (ثجاجا) منصبا بكثرة يقال ثجه وثج بنفسه، وفى الحديث " أفضل الحج العج والثج " أي رفع الصوت بالتلبية وصب دماء الهدى، وكان ابن عباس مثجا يسيل غربا: يعنى يثج الكلام ثجا في خطبته. وقرأ الأعرج ثجاحا ومثاجح الماء مصابه والماء ينثجح في الوادي (حبا ونباتا) يريد ما يتقوت من نحو الحنطة والشعير وما يعتلف من التبن والحشيش كما قال - كلوا وارعوا أنعامكم - والحب ذو العصف والريحان - (ألفافا) ملتفة ولا واحد له كالاوزاع والأخياف، وقيل الواحد لف، وقال صاحب الإقليد أنشدني الحسن بن علي الطوسي:
جنة لف وعيش مغدق * وندامى كلهم بيض زهر وزعم ابن قتيبة أنه لفاء ولف ثم ألفاف، وما أظنه واجدا له نظيرا من نحو خضر وأخضار وحمر وأحمار، ولو قيل هو جمع ملتفة بتقدير حذف الزوائد لكان قولا وجيها (كان ميقاتا) كان في تقدير الله وحكمه حدا توقت به الدنيا وتنتهي عنده أو حدا للخلائق ينتهون إليه (يوم ينفخ) بدل من يوم الفصل أو عطف بيان (فتأتون أفواجا) من القبور إلى الموقف أمما كل أمة مع إمامهم، وقيل جماعات مختلفة، وعن معاذ رضي الله عنه " أنه سأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا معاذ سألت عن أمر عظيم من الأمور، ثم أرسل عينيه وقال: تحشر عشرة أصناف من أمتي: بعضهم على صورة القردة، وبعضهم على صورة الخنازير، وبعضهم منكسون أرجلهم فوق وجوههم يسحبون عليها، وبعضهم عميا، وبعضهم صما بكما، وبعضهم يمضغون ألسنتهم فهي مدلاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم يتقذرهم أهل الجمع، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم، وبعضهم مصلبون على جذوع من نار، وبعضهم أشد نتنا من الجيف، وبعضهم ملبسون جبابا سابغة من قطران لازقة بجلودهم. فأما الذين على صور القردة فالقتات من الناس، وأما الذين على صورة الخنازير فأهل السحت، وأما المنكسون على وجوههم فأكلة الربا، وأما العمى فالذين يجورون في الحكم، وأما الصم والبكم فالمعجبون بأعمالهم، وأما الذين يمضغون ألسنتهم فالعماء والقصاص الذين خالف قولهم أعمالهم. وأما الذين قطعت أيديهم وأرجلهم فهم الذين يؤذون الجيران، وأما المصلبون على جذوع من نار فالسعاة بالناس إلى السلطان، وأما الذين هم أشد نتنا من الجيف فالذين يتبعون الشهوات واللذات ومنعوا حق الله في أموالهم، وأما الذين يلبسون الجباب فأهل الكبر والفخر والخيلاء ". وقرئ وفتحت بالتشديد والتخفيف، والمعنى: كثرت أبوابها المفتحة لنزول الملائكة كأنها ليست إلا
(٢٠٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 203 204 205 206 207 208 209 210 211 212 213 ... » »»