الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٤ - الصفحة ١٦٩
وإنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا. وإنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا. وإنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا. وإنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا. وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا.
____________________
وكذلك قوله نقعد منها مقاعد: أي كنا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرث والشهب، والآن ملئت المقاعد كلها، وهذا ذكر ما حملهم على الضرب في البلاد حتى عثروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم واستمعوا قراءته، يقولون لما حدث هذا الحادث من كثرة الرجم ومنع الاستراق قلنا: ما هذا إلا لأمر أراده الله بأهل الأرض ولا يخلو من أن يكن شرا وأو رشدا: أي خيرا من عذاب أو رحمة أو من خذلان أو توفيق (منا الصالحون) منا الأبرار المتقون (ومنا دون ذلك) ومنا قوم دون ذلك فحذف الموصوف كقوله - وما منا إلا له مقام معلوم - وهم المقتصدون في الصلاح غير الكاملين فيه، أو أرادوا الطالحين (كنا طرائق قددا) بيان للقسمة المذكورة: أي كنا ذوي مذاهب مفترقة مختلفة، أو كنا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة، أو كنا في طرائق مختلفة كقوله:
* كما عسل الطريق الثعلب * أو كانت طرائقنا طائق قددا على حذف المضاف الذي هو الطرائق وإقامة الضمير المضاف إلى مقامه، والقدة من قد كالقطعة من قطع، ووصفت الطرائق بالقدد لدلالتها على معنى التقطع والتفرق (في الأرض) و (هربا) حالان: أي لن نعجزه كائنين في الأرض أينما كنا فيها ولن نعجزه هاربين منها إلى السماء. وقيل لن نعجزه في الأرض إن أراد بنا أمرا ولن نعجزه هربا إن طلبنا. والظن بمعنى اليقين، وهذه صفة أحوال الجن وما هم عليه من أحوالهم وعقائدهم منهم أخيار وأشرار ومقتصدون وأنهم يعتقدون وأن الله عز وجل عزيز غالب لا يفوته مطلب ولا ينجى عنه مهرب (لما سمعنا الهدى) هو سماعهم القرآن. وإيمانهم به (فلا يخاف) فهو لا يخاف أي: فهو غير خائف، ولان الكلام في تقدير مبتدأ وخبر دخلت الفاء ولولا ذاك لقيل لا يخف.
فإن قلت: أي فائدة في رفع الفعل وتقدير مبتدأ قبله حتى يقع خبرا له ووجوب إدخال الفاء وكان ذلك كله مستغنى عنه بأن يقال: لا يخف؟ قلت: الفائدة فيه أنه إذا فعل ذلك فكأنه قيل فهو لا يخاف، فكان دالا على تحقيق أن المؤمن ناج لا محالة وأنه هو المختص بذلك دون غيره. وقرأ الأعمش فلا يخف على النهى (بخسا ولا رهقا) أي جزاء بخس ولا رهق لأنه لم يبخس أحدا حقا ولا رهق ظلم أحد فلا يخاف جزاؤهما، وفيه دلالة على أن من حق من آمن بالله أن يجتنب المظالم، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام " المؤمن من أمنه الناس على أنفسهم وأموالهم " ويجوز أن يراد فلا يخاف أن يبخس بل يجزى الجزاء الأوفى، ولا أن ترهقه ذلة من قوله عز وجل - وترهقهم ذلة - (القاسطون) الكافرون الجائرون عن طريق الحق. وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه أن الحجاج قال له حين أراد قتله: ما تقول في؟ قال: قاسط عادل، فقال القوم: ما أحسن ما قال حسبوا أنه يصفه بالقسط والعدل، فقال الحجاج: يا جهلة إنه سماني ظالما مشركا، وتلا لهم قوله تعالى - وأما القاسطون - وقوله - ثم الذين كفروا بربهم يعدلون - وقد زعم من لا يرى للجن ثوابا أن الله تعالى أوعد قاسطيهم وما وعد مسلميهم وكفى به وعدا أن قال - فأولئك تحروا رشدا - فذكر سبب الثواب وموجبه، والله أعدل من أن يعاقب القاسط ولا يثبت الراشد
(١٦٩)
مفاتيح البحث: الخوف (1)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 164 165 166 167 168 169 170 171 172 173 175 ... » »»