وضيق مع وفور النعمة، ورخص أسعارها، ولما أردت الرجوع مع سائر الزائرين لم يكن عندي شئ من الزاد حتى قرصة لقوت يومي، فتخلفت عنهم، وبقيت يومي إلى زوال الشمس فزرت مولاي وأديت فرض الصلاة فرأيت أني لو لم ألحق بهم لا يتيسر لي الرفقة عن قريب وإن بقيت أدركتني الشتاء ومت من البرد.
فخرجت من الحرم المطهر مع ملالة الخاطر، وقلت في نفسي: أمشي على أثرهم، فان مت جوعا استرحت، وإلا لحقت بهم، فخرجت من البلد الشريف وسألت عن الطريق، وصرت أمشي حتى غربت الشمس وما صادفت أحدا، فعلمت أني أخطأت الطريق، وأنا ببادية مهولة لا يرى فيها سوى الحنظل، وقد أشرفت من الجوع والعطش على الهلاك، فصرت أكسر حنظلة حنظلة لعلي أظفر من بينها بحبحب (1) حتى كسرت نحوا من خمسمائة، فلم أظفر بها، وطلبت الماء والكلاء حتى جنني الليل، ويئست منهما، فأيقنت الفناء واستسلمت للموت، وبكيت على حالي.
فتراءى لي مكان مرتفع، فصعدته فوجدت في أعلاها عينا من الماء فتعجبت وشكرت الله عز وجل وشربت الماء وقلت في نفسي: أتوضأ وضوء الصلاة واصلي لئلا ينزل بي الموت وأنا مشغول الذمة بها، فبادرت إليها.
فلما فرغت من العشاء الآخرة أظلم الليل وامتلأ البيداء من أصوات السباع وغيرها وكنت أعرف من بينها صوت الأسد والذئب وأرى أعين بعضها تتوقد كأنها السراج، فزادت وحشتي إلا أني كنت مستسلما للموت، فأدركني النوم لكثرة التعب، وما أفقت إلا والأصوات قد انخمدت، والدنيا بنور القمر قد أضاءت، وأنا في غاية الضعف، فرأيت فارسا مقبلا علي فقلت في نفسي إنه يقتلني لأنه يريد متاعي فلا يجد شيئا عندي فيغضب لذلك فيقتلني، ولا أقل من أن تصيبني منه جراحة.