بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ١٥ - الصفحة ٣٩٣
قالت: فغلبوني على رأيي حتى انطلقت به إلى كاهن، فقصصت قصته، قال: دعيني أن أسمع من الغلام؟ فإن الغلام أبصر بأمره منكم، تكلم يا غلام، قالت حليمة: فقص ابني محمد صلى الله عليه وآله قصته من أولها إلى آخرها، فوثب الكاهن قائما " على قدميه وضمه إلى صدره ونادى بأعلى صوته: يا آل العرب يا آل العرب، من شر قد اقترب، اقتلوا هذا الغلام و اقتلوني معه، فإنكم إن تركتموه وأدرك مدرك الرجال ليسفهن أحلامكم، وليبدلن أديانكم، وليدعونكم إلى رب لا تعرفونه، ودين تنكرونه، قالت: فلما سمعت مقالته انتزعته من يده وقلت: أنت أعته (1) وأجن من ابني، ولو علمت أن هذا يكون منك ما أتيتك به، اطلب لنفسك من يقتلك فإنا لا نقتل محمدا "، فاحتملته واتيت به منزلي، فما بقي يومئذ في بني سعد بيت إلا ووجد منه ريح المسك.
وكان ينقض عليه كل يوم طيران أبيضان يغيبان في ثيابه ولا يظهران، فلما رأى أبوه ذلك قال لي: يا حليمة إنا لا نأمن على هذا الغلام، وقد خشيت عليه من تباع (2) الكهنة فألحقيه بأهله قبل أن يصيبه عندنا شئ، قالت: فلما عزمت على ذلك سمعت صوتا " في جوف الليل ينادي: ذهب ربيع الخير، وأمان بني سعد، هنيئا " لبطحاء مكة إذا كان مثلك فيها يا محمد، فالآن قد أمنت أن تخرب، أو يصيبها بؤس بدخولك إليها يا خير البشر، قالت: فلما أصبحت ركبت أتاني ووضعت النبي صلى الله عليه وآله بين يدي، فلم أكن أقدر أفارقه مما كنت أنادي يمنة ويسرة حتى انتهيت به إلى الباب الأعظم من أبواب مكة وعليه جماعة مجتمعون، فنزلت لأقضي حاجة وأنزلت النبي صلى الله عليه وآله فغشيتني كالسحابة البيضاء و سمعت وجبة شديدة، ففزعت، وجعلت ألتفت يمنة ويسرة ونظرت فلم أر النبي صلى الله عليه وآله، فصحت:
يا معشر قريش الغلام الغلام، قالوا: ومن الغلام؟ قلت: محمد بن آمنة، قالوا: ومن أين كان معك محمد لعلك تحلمين (3) أو منك هذيان؟ قلت: لا والله ما حلمت وإني لفي يقين من أمري، فجعلت أبكي وأنادي: وا محمداه، فبينا أنا كذلك إذا أنا بشيخ كبير فقال لي: أيتها السعدية

(1) عنه: نقص عقله. دهش من غير مس جنون، فهو معتوه.
(2) التباع جمع التابع: الجنى. من سار في أثر غيره، أو عمل عمله.
(3) حلم: رأى في منامه رؤيا.
(٣٩٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 388 389 390 391 392 393 394 395 396 397 398 ... » »»
الفهرست