ما حاصله: أن هذه الآية تدل على أن الحرام ليس رزقا لأنه سبحانه مدحهم بالانفاق من الرزق، والانفاق من الحرام لا يوجب المدح، وقد يقال: إن تقديم الظرف يفيد الحصر وهو يقتضي كون المال المنفق على ضربين: ما رزقه الله، وما لم يرزقه وإن المدح إنما هو على الانفاق مما رزقهم وهو الحلال، لا مما سولت لهم أنفسهم من الحرام ولو كان كل ما ينفقونه رزقا من الله سبحانه لم يستقم الحصر فتأمل. انتهى كلامه رفع الله مقامه.
أقول: إن كان المراد بقولهم: رزقهم الله الحرام أنه خلقه ومكنهم من التصرف فيه فلا نزاع في أن الله رزقهم بهذا المعنى، وإن كان المعنى أنه المؤثر في أفعالهم وتصرفاتهم في الحرام فهذا إنما يستقيم على أصلهم الذي ثبت بطلانه، وإن كان الرزق بمعنى التمكين وعدم المنع من التصرف فيه بوجه فظاهر أن الحرام ليس برزق بهذا المعنى على مذهب من المذاهب، وإن كان المعنى أنه قدر تصرفهم فيه بأحد المعاني التي مضت في القضاء والقدر، أو خذلهم ولم يصرفهم جبرا عن ذلك فبهذا المعنى يصدق أنه رزقهم الحرام; وأما ظواهر الآيات والأخبار الواردة في ذلك فلا يريب عاقل في أنها منصرفة إلى الحلال، كما أومأنا إلى معناه سابقا.
وأما الأسعار فقد ذهبت الأشاعرة إلى أنه ليس المسعر إلا الله تعالى، بناءا على أصلهم من أن لا مؤثر في الوجود إلا الله. وأما الامامية والمعتزلة فقد ذهبوا إلى أن الغلاء والرخص قد يكونان بأسباب راجعة إلى الله، وقد يكونان بأسباب ترجع إلى اختيار العباد; وأما الأخبار الدالة على أنهما من الله فالمعنى أن أكثر أسبابهما راجعة إلى قدرة الله، أو أن الله تعالى لما لم يصرف العباد عما يختارونه من ذلك مع ما يحدث في نفوسهم من كثرة رغباتهم، أو غناهم بحسب المصالح فكأنهما وقعا بإرادته تعالى، كما مر القول فيما وقع من الآيات والأخبار الدالة على أن أفعال العباد بإرادة الله تعالى ومشيته، وهدايته وإضلاله، وتوفيقه وخذلانه; ويمكن حمل بعض تلك الأخبار على المنع من التسعير والنهي عنه; بل يلزم الوالي أن لا يجبر الناس على السعر ويتركهم و اختيارهم، فيجري السعر على ما يريد الله تعالى.