" كن " فيكون، لا بصوت يقرع، ولا نداء يسمع، وإنما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه، و مثله لم يكن من قبل ذلك كائنا، ولو كان قديما لكان إلها ثانيا، لا يقال له: كان بعد أن لم يكن فتجري عليه الصفات المحدثات، ولا يكون بينها وبينه فصل، (1) ولاله عليها فضل فيستوي الصانع والمصنوع، ويتكافأ المبتدع والبديع، خلق الخلائق من غير مثال (2) خلا من غيره، ولم يستعن على خلقها بأحد من خلقه، وأنشأ الأرض فأمسكهم من غير اشتغال، وأرساها على غير قرار، وأقامها بغير قوائم، وربعها بغير دعائم، وحصنها من الأود والاعوجاج، ومنعها من التهافت والانفراج، أرسى أوتادها، وضرب أسدادها، واستفاض عيونها، وخذ أوديتها، فلم يهن ما بناه، (3) ولا ضعف ما قواه، وهو الظاهر عليها بسلطانه وعظمته، والباطن لها بعلمه ومعرفته، (4) والعالي على كل شئ منها بجلاله وعزته، لا يعجزه شئ منها طلبه، ولا يمتنع عليه فيغلبه، ولا يفوته السريع منها فيسبقه، ولا يحتاج إلى ذي مال فيرزقه، خضعت الأشياء له فذلت مستكينة لعظمته، لا تستطيع الهرب من سلطانه إلى غيره فتمتنع من نفعه وضره، ولا كفؤ له فيكافيه ولا نظير له فيساويه، هو المفني لها بعد وجودها حتى يصير موجودها كمفقودها، وليس فناء الدنيا بعد ابتداعها بأعجب من إنشائها واختراعها كيف ولو اجتمع جميع حيوانها من طيرها وبهائمها وما كان من مراحها وسائمها وأصناف أسناخها (5) وأجناسها، ومتبلدة أممها وأكياسها على إحداث بعوضة ما قدرت على إحداثها، ولا عرفت كيف السبيل إلى إيجادها، ولتحيرت عقولها في علم ذلك وتاهت (6) وعجزت قواها، وتناهت ورجعت خاسئة؟ سيرة عارفة بأنها مقهورة، مقرة بالعجز عن إنشائها، مذعنة بالضعف عن إفنائها وأنه يعود سبحانه بعد فناء الدنيا وحده لا شئ معه كما كان قبل ابتدائها كذلك يكون بعد فنائها بلا وقت
(٢٥٥)