ما يعصر ويطبخ، ومنها ما يعصر ولا يطبخ، مما سمي بلغات شتى لا يصلح بعضها إلا ببعض ولا يصير دواءا إلا باجتماعها، ومنها مرائر السباع والدواب البرية والبحرية، وأهل هذه البلدان مع ذلك متعادون مختلفون متفرقون باللغات، متغالبون بالمناصبة، (1) و متحاربون بالقتل والسبي أفترى ذلك الحكيم تتبع هذه البلدان حتى عرف كل لغة وطاف كل وجه، وتتبع هذه العقاقير مشرقا ومغربا آمنا صحيحا لا يخاف ولا يمرض، سليما لا يعطب، حيا لا يموت، هاديا لا يضل، قاصدا لا يجوز (2) حافظا لا ينسى، نشيطا لا يمل، حتى عرف وقت أزمنتها، ومواضع منابتها مع اختلاطها واختلاف صفاتها وتباين ألوانها وتفرق أسمائها، ثم وضع مثالها على شبهها وصفتها، ثم وصف كل شجرة بنباتها وورقها وثمرها وريحها وطعمها؟ أم هل كان لهذا الحكيم بد من أن يتبع جميع أشجار الدنيا وبقولها وعروقها شجرة شجرة، وورقة ورقة، شيئا شيئا؟ فهبه وقع على الشجرة التي أراد فكيف دلته حواسه على أنها تصلح لدواء، والشجر مختلف منه الحلو والحامض والمر والمالح.
وإن قلت: يستوصف في هذه البلدان ويعمل بالسؤال، فأنى يسأل عما لم يعاين ولم يدركه بحواسه؟ أم كيف يهتدي إلى من يسأله عن تلك الشجرة وهو يكلمه بغير لسانه وبغير لغته والأشياء كثيرة؟ فهبه فعل كيف عرف منافعها ومضارها، وتسكينها و تهييجها، وباردها وحارها، وحلوها ومرارتها وحرافتها، (3) ولينها وشديدها (4)؟
فلئن قلت: بالظن إن ذلك مما لا يدرك ولا يعرف بالطبائع والحواس، ولئن قلت:
بالتجربة والشرب لقد كان ينبغي له أن يموت في أول ما شرب وجرب تلك الأدوية بجهالته بها وقلة معرفته بمنافعها ومضارها وأكثرها السم القاتل. ولئن قلت: بل طاف في كل بلد، وأقام في كل أمة يتعلم لغاتهم ويجرب بهم أدويتهم تقتل الأول فالأول منهم ما كان لتبلغ معرفته الدواء الواحد إلا بعد قتل قوم كثير، فما كان أهل تلك البلدان