حتى أن زبله يدخل في بعض الاعمال، (1) ومن أعظم الإرب فيه خلقته العجيبة الدالة على قدرة الخالق جل شأنه، وتصرفها فيما شاء كيف شاء لضرب من المصلحة. فأما الطائر الصغير الذي يقال له: " ابن تمرة " فقد عشش في بعض الأوقات في بعض الشجر فنظر إلى حية عظيمة قد أقبلت نحو عشه فاغرة فاها لتبلعه فبينما هو يتقلب ويضطرب في طلب حيلة منها إذا وجد حسكة فحملها فألقاها في فم الحية، فلم تزل الحية تلتوي وتتقلب حتى ماتت. أفرأيت لو لم أخبرك بذلك كان يخطر ببالك أو ببال غيرك أنه يكون من حسكة مثل هذه المنفعة العظيمة أو يكون من طائر صغير أو كبير مثل هذه الحيلة؟ اعتبر بهذا وكثير من الأشياء تكون فيها منافع لا تعرف إلا بحادث يحدث به أو خبر يسمع به.
انظر إلى النحل واحتشاده في صنعة العسل، وتهيئة البيوت المسدسة وما ترى في ذلك اجتماعه من دقائق الفطنة (2) فإنك إذا تأملت العمل رأيته عجيبا لطيفا، وإذا رأيت المعمول وجدته عظيما شريفا موقعه من الناس، وإذا رجعت إلى الفاعل ألفيته غبيا جاهلا بنفسه فضلا عما سوى ذلك، ففي هذا أوضح الدلالة على أن الصواب والحكمة في هذه الصنعة ليس للنحل بل هي للذي طبعه عليها وسخره فيها لمصلحة الناس.
انظر إلى هذا الجراد ما أضعفه وأقواه فإنك إذا تأملت خلقه رأيته كأضعف الأشياء، وإن دلفت عساكره نحو بلد من البلدان لم يستطع أحد أن يحميه منه.
ألا ترى أن ملكا من ملوك الأرض لو جمع خيله ورجله ليحمي بلاده من الجراد لم يقدر على ذلك؟ أفليس من الدلائل على قدرة الخالق أن يبعث أضعف خلقه إلى أقوى خلقه فلا يستطيع دفعه؟ انظر إليه كيف ينساب على وجه الأرض مثل السيل فيغشي السهل و الجبل والبدو والحضر، حتى يستر نور الشمس بكثرته فلو كان هذا مما يصنع بالأيدي