لو زجرت الأعمى عن الإبصار نسبك من له أدنى شعور إلى السفه والجنون؟ (وسقط معنى الوعد والوعيد) لأنهما من الألطاف المحركة إلى الامتثال بالأمر والنهي لرغبة الثواب ورهبة العقاب وقد عرفت بطلان هذه الامور على تقدير الإجبار، وأيضا على هذا التقدير كانت جميع القبائح مستندة إليه تعالى ولو جاز هذا لجاز أن يخلف الوعد والوعيد ويكرم العاصي ويعاقب المطيع ويكذب في الأخبار بأحوال الآخرة ويصدق الكاذب بإظهار المعجزة على يده فلا يبقى الوثوق بالوعد والوعيد (فلم يكن لائمة للمذنب ولا محمدة للمحسن) المحمدة ما يحمد به ووجه ذلك أنه لا معنى لتوجه اللوم والمدح إليهما إذا صدر الذنب والإحسان من غيرهما ولكن يتوجهان إليهما إذ كل عاقل يذم من ارتكب الظلم والجور والتعدي وغصب الأموال وقتل النفوس ويمدح من بالغ في الإحسان إلى الناس وبذل الخير وإعانة الملهوف ومساعدة الضعفاء والاجتناب عن المعاصي بل المجبرة إذا غفلوا عن عقيدتهم الفاسدة يحكمون بذلك أيضا قال شارح كشف الحق: حكي عن عدلي أنه قال لجبري: إذا ناظرتم أهل العدل قلتم بالقدر، وإذا دخل أحدكم منزله ترك ذلك لأجل فلس، قال: وكيف؟
قال: إذا كسرت جاريته كوزا يساوي فلسا ضربها وشتمها ونسي مذهبه. وصعد سلام القاري المنارة فأشرف على بيته فرأى غلامه يفجر بجاريته فبادر يضربهما فقال الغلام: القضاء والقدر ساقانا، فقال: لعلمك بالقضاء والقدر أحب ألي من كل شيء أنت حر لوجه الله تعالى، ورأى شيخ بأصبهان رجلا يفجر بأهله فجعل يضرب امرأته وهي تقول القضاء والقدر، فقال: يا عدوة الله أتزنين وتعتذرين بمثل هذا؟
فقالت: أوه تركت السنة وأخذت مذهب ابن عباد الرافضي فتنبه وألقى السوط وقبل ما بين عينيها واعتذر إليها وقال: أنت سنية حقا، وجعل لها كرامة على ذلك (ولكان المذنب أولى بالإحسان من المحسن ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب) في إعادة اللام إشعار باستقلال كل في واحد من المعطوف والمعطوف عليه في الدلالة على فساد ذلك، وفي حديث الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو مثل هذا الحديث مع تفاوت يسير هكذا «ولم يكن المحسن أولى بالمدح من المسئ ولا المسئ أولى بالذم من المحسن» وهذه العبارة أظهر معنى مما في هذا الكتاب لأنه إذا كان العبد مسلوب الاختيار بالكلية كان المحسن والمسيء متساويين في عدم القدرة وعدم استناد أفعالهما إليهما فلا يكون الأول أولى بالمدح من الثاني ولا الثاني أولى بالذم من الأول، بل لهما رتبة التساوي في المدح والذم فعلى هذا يجوز أن يمدحهما جميعا وأن يذمها جميعا وأن يذم الأول ويمدح الثاني، فهل يجوز لعاقل أن يعتقد فيه جل شأنه