شرح أصول الكافي - مولي محمد صالح المازندراني - ج ٥ - الصفحة ١٣
مرادهم دون مراده تعالى ولا يرضى بذلك عاقل، ووجه الدفع أن ذلك إنما يلزم لو أراد منهم الفعل والترك حتما وجبرا وهم اختاروا نقيض مراده، وأما إذا أراد ذلك منهم على سبيل الاختيار بأن قال لهم في هذا الفعل مصلحة وفي تركه مفسدة ولكم زمام الاختيار، فإن فعلتموه فلكم الثواب وإن تركتموه فعليكم العقاب. فمن البين أن اختيارهم الترك حينئذ لا يستلزم أن يكونوا عاصين على وجه الغلبة وأن يكون الله تعالى مغلوبا لهم (ولم يطع مكرها) بكسر الراء اسم فاعل وبفتحها مصدر أي لم يطع إكراها لأن وقوع إرادة العبد على وفق إرادته تعالى ليس لأجل غلبته تعالى عليه وصرف إرادته قهرا إلى قبول الطاعة بل لأجل اختيار العبد إياها (ولم يملك مفوضا) بكسر الواو اسم فاعل من التفويض يقال: فوض الأمر إليه: أي رده إليه كما يرد الموكل أمره إلى وكيله المطلق الذي يتصرف فيه من غير حاجة إلى تصرف الموكل وتدبيره وإذنه في أوان التصرفات الكلية والجزئية. وفيه رد على المفوضة وقد عرفت أنهم يقولون بأنه تعالى أقدرهم على أعمالهم على وجه لا يكون له تعالى بعده قضاء وإرادة وإذن وتصرف وتدبير ولطف وإعانة في تلك الأعمال، وبالجملة يقولون: خرجت أزمة مقدوراتنا ما دام الأقدار عن يد قدرته، فأخرجوا بهذا الاعتقاد الفاسد السلطان المطلق عن التصرف في ملكه وعزلوه عن التدبير في عباده وبلاده.
وللتفويض معان اخر يجيء ذكرها في بعض المواضع إن شاء الله تعالى. وانظر أيها اللبيب إلى لطف كلامه (عليه السلام) حيث أبطل بقوله «إنه لو كان كذلك - إلى قوله - ومجوسها» مذهب الجبرية الواقع في طرف الأفراط وأبطل بقوله «ولم يملك مفوضا» مذهب المفوضة الواقع في طرف التفريط وأثبت مذهب العدلية المتوسط بين هذه الطرفين والواقع بين هذين المذهبين وهو الأمر بين الأمرين كما أشار إليه بقوله «إن الله كلف تخييرا» (ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا) كما قال سبحانه (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين * وما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون) وفيه إشارة إلى مفسدة أخرى من مفاسد الجبر وهي تجويز أن يكون خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا لغوا لأن اللغو وإن كان قبيحا لكن الجبر يوجب صدور جميع القبائح منه تعالى (ولم يبعث النبيين مبشرين ومنذرين عبثا) (1) إشارة إلى مفسدة أخرى وهي

1 - قوله «مبشرين ومنذرين عبثا» العبث: فعل لا يفيد فائدة ولا ينتج لأن الله تعالى يجري بناء على الجبر كل عمل أراد على يدي كل انسان أراد فلا فائدة في إرسال الرسل كما نرى في الأمور التكوينية كحركة النبض والتنفس وجريان الدم في العروق وهضم الغذاء ودفع الفضل فإنه يجري على ما أراد الله تعالى في الإنسان والحيوان ولا يعقل أن يرسل رسولا يأمرهم بأن يحركوا نبضهم ويهضموا طعامهم بل التأمل في أفعالنا يكفي في الفرق بين الجبر والاختيار والاعتراف بأن فعل الإنسان باختياره إذ لا ريب أن الإنسان يعرف في ذاته مبدأين لفعلين متخالفين، الأول: قوة تحرك نبضه ونفسه وتهضم ولا يسطيع الإنسان أن يمنع من فعلها أصلا وإن عجزت القوة لا يستطيع أن يقهرها وإلا لجاز أن يسلم المريض باختياره، والثاني: قوة تحرك عضلاته وجوارحه باختياره كالمشي وهذان المبدءان متخالفان ربما يتمانعان كفاعلين متضادين فيريد الإنسان أن يثب خمسة أذرع في الهواء أو يطير ويفوق على السطح ويمنعه ثقله فيسقطه على الأرض فيغلب المبدأ الاختياري في الوثوب مقدارا قليلا ثم يغلب المبدأ الغير الاختياري عليه وبذلك يستدل على أن النفس غير الجسد وإلا لكان أحدهما متسلما للأجر ومطيعا له منقادا وليس في القوى الطبيعية التكوينية اختيار أصلا بل فيها الجبر فقط ولو كان النفس عين الجسد أو حالة من حالاته أو عارضا لمزاجه لتبعه في الجبر ولم يمانعه ولم يضاده، وإن قلنا: أن الجبر من لوازم مذهب الملاحدة والطبيعيين والاختيار من لوازم دين الموحدين والألهيين لم نقل جزافا لأنا لا نعرف من الطبيعة غير الشاعرة إلا الجبر ولا يتصور فيها الاختيار أصلا ولما وجدنا في أنفسنا مبدأ الاختيار وإذ ليس جميع أفعالنا نظير حركة النبض عرفنا أن فينا مبدءا غير جسماني وليس المؤثر في الوجود منحصرا في الطبيعة الجسمانية غير الشاعرة وأن ما ليس في ذاته جسما أو جسمانيا كالعقول فهو الاختيار المحض والله تعالى ليس عنده جبر. (ش)
(١٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 ... » »»
الفهرست