شرح أصول الكافي - مولي محمد صالح المازندراني - ج ٤ - الصفحة ٢٠٣
كنسبته إلى زيد وإبصاره لشيء آخر، ويحتمل أن يكون لفظة «بعد» بضم الباء ويكون اسم «يكون».
والحايل حينئذ بمعنى الحاجز، يعني لا تدركه الأبصار لأنها لو أدركته كان بعد انتقال الأبصار إليه مانعا من رؤيته; لأن من شرايط الرؤية هو القرب المتوسط واللازم باطل; لأن ذلك شأن ذوات الأحياز التي يتصور فيها القرب والبعد بحسب المسافة، وقدس الحق منزه عن ذلك (الذي ليست في أوليته نهاية ولا لآخريته حد ولا غاية) إذ العدم لا يسبق الوجود الأزلي ولا يلحقه.
(الذي لم يسبقه وقت ولم يتقدمه زمان) الوقت جزء الزمان، ولما كان جل شأنه خالق الوقت والزمان وجب أن يتقدمهما فلا يتصور تقدمهما عليه.
(ولم يتعاوره) أي لم يأخذه على سبيل التبادل والتناوب (زيادة ولا نقصان) لأنهما من لوازم الكم والكميات (ولا يوصف بأين ولا بم ولا مكان) أي لا يوصف بالحصول في الأين ولعل المراد بالأين الجهة دون المكان لئلا يلزم التكرار، وصح إطلاق الأين على الجهة لكمال المناسبة بينهما في أنهما مقصد للمتحرك الأول باعتبار الحصول فيه والثاني باعتبار الوصول إليه والقرب منه، وكذا لا يوصف بما هو; لأن وصفه به يستلزم وصفه بأنه يمكن معرفة كنه حقيقته; لأن «ما هو» سؤال عن كنه الحقيقة، وكذا لا يوصف بالكون في المكان لاستحالة افتقاره إلى المكان.
(الذي بطن من خفيات الأمور) أي أدرك الباطن من خفيات الأمور يعني نفذ علمه في بواطنها لأنه عالم السر والخفيات، ويحتمل أن يكون المراد أنه باطن خفي داخل في جملة خفيات الأمور ولما كانت بواطنها أخفى من ظواهرها كان المفهوم من كونه بطن منها أنه أخفي منها عند العقول وغيرها من القوى المدركة، وذلك لأن الإدراك إما حسى وإما عقلي، ولما كان عز وجل مقدسا عن الجسمية منزها عن الوضع والجهة استحال أن يدركه شيء من الحواس الظاهرة والباطنة، ولما كان ذاته بريئة عن أنحاء التركيب استحال أن يكون للعقل اطلاع عليها بالكنه فخفاؤه إذن على جميع الإدراكات ظاهر وكونه أخفى الأمور الخفية واضح.
(وظهر في العقول بما يرى في خلقه من علامات التدبير) إذ بآيات قدرته وتدبيره وعلامات صنعته وتقديره تجلت ذاته في عقول العارفين (1) وظهرت صفاته في صدور العالمين، وقد حث

١ - قوله: «تجلت ذاته في عقول العارفين» أكثر العلوم الحاصلة للانسان مبدؤها الانتقال الدفعي من ملاحظة مقدمات حصلت بغير اختيار ويسميها المنطقيون الحدس وهو يفيد اليقين وليس مرادفا للظن والتخمين كما في اصطلاح الناس، ومثاله المعروف نور القمر مستفاد من الشمس، إذ رأوا ارتباطا دائما بين اختلاف تشكيلات القمر ووضعه من الشمس قالوا: إن نوره منها وأمثلة ذلك في الهيئة وساير العلوم كثيرة وربما يسمى أصحاب هذا الحدس القوى أهل زماننا عبقريا وفي الفارسية الدارجة نابغة، وظاهر أن معرفة الناس بالله المدبر الحكيم لم يكن خارجا من القاعدة الكلية في استنباط سائر أسرار الكون، ففي زمان قديم لا نعلم تأريخه تنبه رجل عبقري; لأن الأرض كرة ولا نعلم اسم ذلك الرجل وبيئته ولا زمانه كذلك تنبه من طريق العقل رجل لا نعلم اسمه وساير مشخصاته أن مبدأ هذا العالم فاعل حكيم عالم فعل ما فعل لغاية. أما من جهة تعليم الأنبياء والإلهام فأول من علم التوحيد آدم أبو البشر وليس هو مراد أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذا الموضع بل مراده الظهور في العقول من ملاحظة علامات التدبير وطريق تنبه العقل ما ذكره (عليه السلام) فإن الإنسان لما نظر في الآفاق وفي نفسه خصوصا بعد معرفة شيء من التشريح والطب تنبه; لأن صانعه ليس موجودا غير شاعر كما يتنبه من صنايع يد الإنسان وإتقان فعله مهارة صانعه، وما يقال من أن أول من عرف الله تعالى بالعقل هو سقراط الحكيم أو انكساغوراس أو غيره فإنما عنى في اليونانيين وفلاسفتهم، وما في توحيد المفضل عن الصادق (عليه السلام) أن أرسطوطاليس هو الذي بين خطأ من تقدمه من نفي العمد والتدبير، فمراده (عليه السلام) أن هذا الحكيم أول من بينه ببيان علمي استدلالي ظهر الحق بقوله ونسخ قول الطبيعيين نسخا بينا أوجب إعراض العقلاء عنهم، وأما أصل تنبه الإنسان لوجود الحق تعالى كان سابقا في الأمم البتة وإن لم يبينوه كما بين أرسطوطاليس. وأما جماعة من العوام وحمقاء الإفرنج وأصحاب الحرف والصناعات منهم فقد توهموا أن الإنسان إنما ينسب الأمور إلى الله تعالى وتدبيره لأنه جاهل بالأسباب الطبيعية ولما عرف تلك الأسباب عرف استغناء العالم عن الله - نعوذ بالله - مثلا ما لم يعلم أن لنمو النبات وتكون الجنين في الرحم ونزول المطر وهبوب الرياح وغير ذلك أسبابا، نسبها إلى فعل الله ولما علم أن المطر بصعود الرطوبات إلى الجو البارد وتبدل البخار وكذلك ساير الأسباب أنكر أن يكون لله تعالى تأثير، فالاعتراف والإيمان بالله تعالى عندهم من الجهل، والإلحاد والكفر من العلم، وقد رأيت كتابا لرجل منهم يسمى باغوست كنت، طول الكلام في ذلك وأتى بأمور تخالف الحس وما نعلم من التاريخ. ونقل عن بعض ملاحدة شعراء العرب حاصل ما في ذلك الكتاب:
اثنان في الدنيا فذو عقل بلا * دين وآخر دين لا عقل له وإنما قلنا إنه مخالف للحس والتاريخ لأنا نرى الجهل بالأمور الغيبية مقدما على العلم بها في التاريخ كما أن جهل الناس بكروية الأرض كان قبل علمهم، وجهلهم بالتشريح وخواص الأدوية قبل علمهم، وجهلهم بعلة الخسوف والكسوف وأسبابهما قبل علمهم، كذلك كان جهلهم بمبدء حكيم قادر لا يرى قبل علمهم به، ونعلم أن أرسطوطاليس وأنكساغوراس وغيرهما كانوا أعلم الناس جميعا بالأمور الطبيعية وكانوا عالمين بأن نزول المطر من استحالة البخار الصاعد من الأرض كما نص أرسطو في كتابه عليه وعلى ساير الأمور الطبيعية ومع ذلك اعترف بوجود المبدأ الحكيم وبقاء النفس، وبالجملة الحق ما ذكره أمير المؤمنين (عليه السلام) من أن معرفة الله تعالى بالنظر والتفكر إنما حصل للانسان بعد تأمله في خلقه لا ما يقوله هذه الجهال إن اعترافهم بالمبدأ كان قبل التفكر والنظر والتأمل. (ش)
(٢٠٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 198 199 200 201 202 203 204 205 206 207 208 ... » »»
الفهرست