شرح أصول الكافي - مولي محمد صالح المازندراني - ج ٤ - الصفحة ١٨٤
الطريق إلى أربع طرق; لأن بعضهم استدلوا بحدوث هذه الذوات على إمكانها (1) وبإمكانها على حاجتها إلى موجد مؤثر، وبعضهم استدلوا بحدوث هذه الذوات فقط من غير نظر إلى الإمكان فقالوا:
الأجسام محدثة وكل محدث فله محدث والمقدمة الأولى استدلالية (2) والثانية بديهية، وبعضهم استدلوا بحدوث الصفات على وجود موجد لها، فقالوا: الأجسام كلها متماثلة، وقد اختص بعضها بصفات ليست للآخر، وذلك التخصيص ليس للجسمية ولا للوازمها لاشتراك الأجسام فيهما فوجب اشتراكها في الصفات ولا لعارض من عوارضها; لأن الكلام في تخصيص ذلك العارض (3) مثل

١ - قوله: «بحدوث هذه الذوات على إمكانها» والفرق بين الأول والثاني توسيط الإمكان، والغرض منه أن الحدوث لا يمكن أن يكون علة للحاجة كما مر، نعم يمكن أن يكون دليلا على الإمكان إذ لو كان واجبا كان قديما لكنه ليس قديما فليس واجبا. (ش) ٢ - قوله: «والمقدمة الأولى استدلالية» إذ ليس حدوث الأجسام بديهيا، واستدلوا عليه بأن الجسم لا يخلو عن الحوادث وما لا يخلو عن الحوادث حادث فالجسم حادث، أما أن الجسم لا يخلو عن الحوادث فلأنه إما أن يكون ساكنا أو متحركا والسكون هو الكون في الآن الثاني في المكان الأول، والحركة كونه في الآن الثاني في المكان الثاني، والكون الثاني حادث لا محالة. أما أن ما لا يخلو عن الحوادث حادث فلأن عدد تلك الحوادث لا يمكن أن يكون غير متناه ببرهان التطبيق وقد مر تقريره في المجلد الثالث.
فإن ناقش أحد في استحالة عدم تناهى الأكوان بأن عدد الأكوان بين المبدأ والمنتهى في الحركة غير متناه أيضا; لأن المسافة التي يتحرك فيها الجسم والزمان ينقسمان إلى غير النهاية لبطلان الجزء الذي لا يتجزى ولو فرض أن أكوان هذا الجسم في كل نقطة من نقاط المسافة أمور بالفعل لها عدد حقيقة لزم كون غير المتناهى محصورا بين حاصرين وهو أفحش من التسلسل وإن فرض أن كثرة الأكوان بالقوة نظير تقسيم الجسم والمقادير إلى غير النهاية بالقوة لبطلان الجزء الذي لا يتجزى فليس عدم التناهي بالقوة باطلا.
قلنا: في جواب المناقشة: يكفينا في إلزام الملاحدة وتبكيتهم الحوادث المتباينة المتفاصلة التي لها كثرة بالفعل وعدد بالحقيقة فإنهم معترفون بعدم تناهي تلك الحوادث أيضا مثل عدد الأيام والليالي وتوليد المواليد من النبات والحيوان ولا نحتاج إلى التمسك بالكثير بالقوة كأكوان الحركة والسكون فإن ناقشوا في تلك الحوادث المتفاصلة أيضا بأن عدم التناهي إنما يبطل فيما يجتمع في الوجود لا في المتعاقبات أو أنكروا عدم تناهيها أصلا، أجبنا بأنا لا نحتاج أيضا إلى البحث فيه بل نقول: الجسم مركب من المادة والصورة، ومحال أن توجد المادة بغير صورة فهي محتاجة إلى الصورة البتة، والصورة إما جسمية بمعنى الاتصال وتتغير بالافتراق إلى صورتين أو أكثر، وإما صورة نوعية كالنارية والمائية والحديدية والنحاسية والحيوانية والنباتية، ولا ريب أن تغيرها بالاستحالة، فمادة الجسم لا تخلو عن قبول الحوادث التي هي صورها وعدم خلوها عنها بمعنى احتياجها إليها، وما لا يخلو عن الحوادث محتاجا إليها مخلوق، وكل مخلوق حادث، فاحتاج إلى محدث واجب، وتبين بذلك كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) «الدال على وجوده بخلقه» وليس غرضنا إلا تفسير كلامه، وهذا يكفينا في هذا الغرض. (ش) 3 - قوله: «لأن الكلام في تخصيص ذلك العارض» تقرير الاستدلال أن للجسم عوارض وحالات لا ينفك عنها كالشكل والمقدار والأين وأمثال ذلك مما يتساوى نسبته إلى أفراد كل منها فيمكن أن يكون كرة أو مكعبا أو أسطوانة وذراعا أو شبرا أو ميلا، وفي هذا المكان أو ذلك المكان، وليس تخصصه بواحد منها لجسميته لتساوي الأجسام في الجسمية واختلافها في العوارض، ولو كانت العلية لنفس الجسمية لكانت جميع الأجسام في مكان واحد وعلى شكل ومقدار واحد وهو محال وليس لعارض من عوارضها; لأن الكلام في تخصيص ذلك العارض الذي أوجب كونه كرة بهذا الجسم والعارض الذي أوجب كونه مكعبا بذلك باق بحاله ولا يتسلسل، فوجب أن ينتهى إلى واجب الوجود، وحينئذ نقول: الجسم أيضا محتاج في وجوده إلى الواجب لأنه محتاج إلى هذه العوارض المحتاجة إلى الواجب والمحتاج إلى المحتاج محتاج. فإن قيل: لعل المخصص هو الطبيعة أي الصورة النوعية. قلنا: الطبيعة محتاجة إلى علة تنتهى إلى الواجب وقيل: هذا أيضا غير صحيح، لأنا نرى أجساما مشتركة في الصورة النوعية كالحديد والنحاس يتساوى نسبتها إلى الأشكال والمقادير، وكما يمكن أن يكون قطعة من نحاس كرة يمكن أن تكون مكعبة وعلى مقادير مختلفة فتعيين بعضها لهذه القطعة وغيره لتلك القطعة بمخصص لا محالة غير الطبيعة.
فإن قيل: لعل المخصص صنعة الصانع أو المعدات السابقة فإنك ترى جسما كرة أو مكعبا بصنعة إنسان أو بتأثير العوامل الطبيعية السابقة واستعداد المادة فترى جبلا أعظم من جبل وبحرا أوسع من بحر لهذه المعدات ومعدن النحاس في أرض بمقدار والملح في مكان آخر بمقدار.
قلنا: الكلام في الجسم البسيط الأول الذي لم يتركب من أجزاء، أخر أعني العناصر لا المواليد وما يتوهم نسبته إلى المعدات على فرض الصحة إنما هو المركب وأما البسيط الذي لم يتحصل ولم يستحل من جسم آخر باعتقاد هؤلاء وكان قديما عندهم فلا بد أن يكون في أزليته على شكل ومقدار معين مع احتمال كونه على غير ذلك المقدار وغير ذلك الشكل فلا يمكن نسبة تخصصه بشكل ومقدار بعلة معدة سابقة كالمركبات والمواليد ولا بد أن يلتزموا إما بعدم استحالة الترجح من غير مرجح أو إمكان وجود وجسم أزلي بغير مقدار وشكل، وقد ذكر الشيخ الصدوق ابن بابويه (رحمه الله) في كتاب التوحيد كلاما في حدوث الأجسام يقرب مما ذكرنا وتمسك باجتماع بعض الأجسام مع بعض وافتراق بعضها من بعض فإنهما مما لا يخلو منها الأجسام البتة أزلا لو فرض أزليتهما كما قلنا في الشكل والمقدار. وقال ليس إحدى الحالتين أولى بالجسم من الأخرى ولا بد لتخصيص إحداهما من موجب كما مر، وفي هذا الاستدلال مناقشة لأنه مبني على مسلمات الخصم فهو حسن في مقام الجدل لا في البرهان، إذ لقائل أن يقول: إني لا أعترف بوجود عناصر بسيطة مختلفة على ما عليه الحكماء قديما وجديدا ولعل العنصر الأصلي واحد يقتضي بطبعه شكلا معينا على مقدار معين يملأ الفضاء، ثم حصل غيره باستحالته وتركيبه وتغيره والتغير من الصفات اللازمة للأجسام ولما لم يكن نظير هذا القول مذهبا لأحد اكتفوا بما قالوا، ولو تمسكنا بما قال الإمام الصادق (عليه السلام) في جواب ابن العوجاء على ما يأتي كان أولى وأصح. (ش)
(١٨٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 179 180 181 182 183 184 185 186 187 188 189 ... » »»
الفهرست