بعض من الأذكياء صورة شكل لم يسبق إلى تصوره فيتصوره ويبرز صورته في الخارج وليس شيء من هذين الفعلين اختراعا، أما الأول فظاهر، وأما الثاني مع أن الفاعل يسمى مخترعا في العرف فلأن التحقيق يشهد بأنه إنما فعل على وفق ما وجد في ذهنه من الشكل والهيئة والمقدار الفائضة من مفيض الحق فيكون في الحقيقة فاعلا عن مثال سبق من الغير فلا يكون مخترعا، وكيفية صنع الله تعالى للعالم وجزئياته منزهة عن الوقوع على أحد هذين الوجهين، أما الأول فلأن الله تعالى (1) كان ولم يكن معه شيء فلم يكن في مرتبة وجوده مثال ومقدار ولا ممثل ومقدر حتى يعمل هو جل شأنه بمثله ويحذو حذوه وأما الثاني فلاستحالة حصول الصور والمقادير في ذاته تعالى (2) ولامتناع استفاضتها من الغير، فكان صنعه لا كصنع الغير وكان فاعلا من غير مثال على أحد الوجهين، فإذن صنعه محض الإبداع وفعله مجرد الاختراع على أبعد ما يكون عن حذو مثال، بخلاف صنع المخلوقين تبارك الله رب العالمين، وإنما كرر (عليه السلام) إبداعه واختراعه تعالى للتأكيد والمبالغة في نفي الافتقار والعجز والحدوث عنه تعالى وفي نفي القدم عن العالم.
(وكل عالم فمن بعد جهل تعلم) أما الإنسان فظاهر لأنه في مبدأ الفطرة خال عن العلوم، وإنما خلقت له هذه الآلات البدنية ليتصفح بها صور المحسوسات ومعانيها ويتنبه لمشاركات بينها ومباينات فتحصل له التجربة وسائر العلوم الضرورية والمكتسبة من المبدأ الفياض بلا واسطة معين ومرشد أو بواسطة، وعلى التقديرين فهو من بعد جهل تعلم من الغير، وأما العقول القادسة (3) فلأنهم