شرح أصول الكافي - مولي محمد صالح المازندراني - ج ٤ - الصفحة ١٤٢
بعض من الأذكياء صورة شكل لم يسبق إلى تصوره فيتصوره ويبرز صورته في الخارج وليس شيء من هذين الفعلين اختراعا، أما الأول فظاهر، وأما الثاني مع أن الفاعل يسمى مخترعا في العرف فلأن التحقيق يشهد بأنه إنما فعل على وفق ما وجد في ذهنه من الشكل والهيئة والمقدار الفائضة من مفيض الحق فيكون في الحقيقة فاعلا عن مثال سبق من الغير فلا يكون مخترعا، وكيفية صنع الله تعالى للعالم وجزئياته منزهة عن الوقوع على أحد هذين الوجهين، أما الأول فلأن الله تعالى (1) كان ولم يكن معه شيء فلم يكن في مرتبة وجوده مثال ومقدار ولا ممثل ومقدر حتى يعمل هو جل شأنه بمثله ويحذو حذوه وأما الثاني فلاستحالة حصول الصور والمقادير في ذاته تعالى (2) ولامتناع استفاضتها من الغير، فكان صنعه لا كصنع الغير وكان فاعلا من غير مثال على أحد الوجهين، فإذن صنعه محض الإبداع وفعله مجرد الاختراع على أبعد ما يكون عن حذو مثال، بخلاف صنع المخلوقين تبارك الله رب العالمين، وإنما كرر (عليه السلام) إبداعه واختراعه تعالى للتأكيد والمبالغة في نفي الافتقار والعجز والحدوث عنه تعالى وفي نفي القدم عن العالم.
(وكل عالم فمن بعد جهل تعلم) أما الإنسان فظاهر لأنه في مبدأ الفطرة خال عن العلوم، وإنما خلقت له هذه الآلات البدنية ليتصفح بها صور المحسوسات ومعانيها ويتنبه لمشاركات بينها ومباينات فتحصل له التجربة وسائر العلوم الضرورية والمكتسبة من المبدأ الفياض بلا واسطة معين ومرشد أو بواسطة، وعلى التقديرين فهو من بعد جهل تعلم من الغير، وأما العقول القادسة (3) فلأنهم

1 - قوله: «أما الأول فلان الله تعالى» يعنى كل مثال ومقدار يفرض فهو متأخر عن وجوده تعالى ذاتا لأنه ممكن والممكن مخلوقه، فان احتمل أنه تعالى خلق شيئا على وفق مثال بذلك المثال أيضا مخلوقه. (ش) 2 - قوله: «والمقادير في ذاته تعالى» وحصول الصورة والمقدار حادث لابد له من علة لاستحالة ترجح أحد طرفي الوجود والعدم للممكن من غير مرجح ثم حصولهما في ذاته تعالى محال لوجهين: الأول: أن محل المقدار لا بد أن يكون جسما ذا طول وعرض ويستحيل حلوله في المجرد، والثاني أن وجود هذه الصور والمقادير في ذاته تعالى إن كانت علته ذات الواجب ثبت خلق هذه الصور بلا مثال سبق وإن كانت تعالى فهو محال إذ ليس غيره إلا ممكنا مخلوقا له. (ش) 3 - قوله: «وأما العقول القادسة» العالم في الممكنات إما إنسان ومثله، أو ملك، وعلوم هؤلاء بعد الجهل فعلم ما سوى الواجب بعد الجهل، أما الإنسان وأمثاله فواضح، وأما العقول القادسة وهم الملائكة فإنهم وإن لم يكن علمهم متأخرا عن الجهل بالتأخر الزماني لكن كان متأخرا بالتأخر الذاتي لأنهم في مرتبة ذاتهم غير عالمين لكون علومهم زائدة على ذاتهم وإنما أخذوا علومهم من الفياض على الإطلاق، ويمكن أن يكون بعض من خلق من البشر عالما من غير سبق جهل زمانا نظير العقول ونقول في تأخر علمهم ما قلنا في العقول وقد أجبنا بذلك عن سؤال ورد علينا في علم النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) مضمونه أنكم تقولون إنهم (عليهم السلام) كانوا عالمين بكل شيء منذ بدء وجودهم وقد قال الله تعالى خطابا للنبي (صلى الله عليه وآله): (ما كنت تعلمها أنت ولا قومك) وقال تعالى: (ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان).
فقلت في الجواب: لا يدعي أحد من الشيعة الإمامية أن النبي والأئمة (عليهم السلام) كانوا مستغنين عن الله تعالى بلى ندعي استغناءهم عن الخلق فقط، علمهم بتعليم الله تعالى إياهم ولم يكن علمهم عين ذاتهم فإن هذه خاصة لواجب الوجود ولا ينافي ذلك كونهم عالمين منذ بدء خلقتهم من الله تعالى ولو لم يكن تعليمه إياهم لم يكونوا عالمين بذاتهم كما أن وجودهم من الله تعالى ولولا إيجاده لم يكونوا موجودين بذاتهم فعدم علمهم مقدم على علمهم; لأن عدم علمهم ذاتي وعلمهم مقتبس من العلة، وما بالذات مقدم على ما بالغير والآيتان لا تدلان على مضي زمان عليه (صلى الله عليه وآله) وهو جاهل إلا إن ادعى مدع اختصاص التقدم والتأخر عرفا ولغة بالزمانيين وليس كذلك بل يطلقان على الذاتيين أيضا إذ لا يختلف أهل العربية في أن الفاء وثم تدلان على الترتب ومع ذلك يصح في اللغة أن يقال: تحركت اليد فتحرك المفتاح دون العكس مع كون الحركتين معا زمانا وتأخر حركة المفتاح عن حركة اليد ليس بالزمان بل بالذات، فثبت أن أهل العرف واللغة يعرفون معنى التأخر الذاتي ويستعملونه في كلامهم ولا يجب حمل جميع ما ورد في الكتاب والسنة من الترتب والتأخر على الزماني ولا يصح دعوى من يدعي اختصاص التأخر الذاتي بأصحاب العلوم النظرية وأنه شيء لا يعرفه أهل اللغة والعرف فقوله تعالى: (ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان) أي ما كنت تعرفها بنفسك بل هو شيء عرفته بتعليم الله تعالى إياك منذ أول خلقتك. (ش)
(١٤٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 137 138 139 140 141 142 143 144 145 146 147 ... » »»
الفهرست