شرح أصول الكافي - مولي محمد صالح المازندراني - ج ١ - الصفحة ٢٥٢
يفتر فعبروا عن عمد الافتراء بالجنة كناية عن أن المجنون لا يفترى فقد جعلوا قسيم الكذب عن عمد الكذب لا عن عمد فيكون مقصودهم حصر خبره الكاذب في نوعيه ولما كان هنا فوائد جمة وفروع متكثرة لا يتيسر القول بها إلا بتحقيق معنى الصدق والكذب أطنبنا القول فيه ومن تلك الفوائد لو أخبرك أحد بشئ.
فقلت: إن كنت صادقا فلله علي كذا فإن كان مطابقا للواقع فقط لزمك الوفاء به على الأول دون الأخيرين وإن كان مطابقا للاعتقاد فقط لزمك الوفاء به على الثاني دون الآخرين وإن كان مطابقا لهما لزمك الوفاء عند الجميع ومنها لو شهد عليك رجل فقلت هو صادق فهو إقرار على الأول والأخير دون الثاني، ومنها لو حلف رجل أن لا يكذب ثم أخبر بما لم يكن مطابقا للواقع فقط أو للاعتقاد فقط أولهما فإنه في الأول يحنث على المذهب الأول دون الأخيرين، وفي الثاني يحنث على المذهب الثاني دون الباقيين، وفي الثالث عند الجميع، ومنها لو حلف أن لا يتكلم اليوم بكلام صادق وكاذب فإنه يحنث إذا تكلم على الأولين دون الأخير فإن فيه مفرا عن الصدق والكذب ومنها لو حلف أن لا يعطي كاذبا فإنه يختلف فيه الحكم أيضا كما لا يخفى وأمثال ذلك كثيرة، واعلم أن الصدق فضيلة عظيمة داخلة تحت فضيلة العفة وقد وقع مدحه ومدح المتصف به في مواضع من القرآن والأخبار ويكفي في ذلك قوله تعالى: (هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم) والكذب رذيلة داخلة تحت الفجور وقد نطقت الآيات والأخبار على ذمه وذم المتصف به، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «الكذب رأس النفاق وهو مفسدة عظيمة في الدنيا والدين» (1) والوجدان شاهد عدل بأن الكذب يسود لوح النفس ويمنعه أن ينتقش بصورة الحق ويفسد المنامات والالهامات ويؤدي إلى خراب الدنيا وقتل النفوس وأنواع الظلم والفساد ولذلك اتفق أهل العلم من أرباب الملل وغيرهم على تحريمه وادعى المعتزلة قبحه بالضرورة.
(والحق وضده الباطل) هذا والسابق عليه متقاربان لأن الخبر والاعتقاد إذا طابقا الواقع كان الواقع أيضا مطابقا لهما لأن المفاعلة من الطرفين فمن حيث إنهما مطابقان أو غير مطابقين له بالكسر يسميان صدقا وكذبا ومن حيث إنهما مطابقان أو غير مطابقين له بالفتح يسميان حقا وباطلا والمقصود أن اختيار هما من جنود العقل والجهل، ويحتمل أن يراد بالحق الدين الحق المسمى بالصراط المستقيم والباطل الدين الباطل الداعي إلى سواء الجحيم وأن يراد بالحق الاقبال على الله وبالباطل الادبار عنه ولا واسطة بينهما، فوجود كل واحد مستلزم لعدم الآخر وعدم كل واحد مستلزم لوجود الآخر.

1 - أخرجه ابن عدي في الكامل هكذا «الكذب باب من أبواب النفاق - الحديث».
(٢٥٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 247 248 249 250 251 252 253 254 255 256 257 ... » »»
الفهرست