والارشاد واستشرق ذهنه بضوء الإطاعة والانقياد توجه إلى مولاه ومقتداه بعد النسيان وحصل له بعد الغفلة فضيلة المعرفة وشرف الترقي إلى مقام أهل العرفان ومن غرق في بحار الشهوات ونام في مراقد الغفلات حتى صار بمنزلة الجمادات أو آل إلى التشابه بالأموات ولم يؤثر فيه تلك المواعظ والنصايح، ولم يحصل له التميز بين المحاسن والمقابح فهو غريق الغفلة والنسيان وأسير الغي والطغيان لا ينزجر عن الباطل انزجارا ولا يتوجه إلى الحق إلا جهلا وإنكارا ويترك عنان الطبيعة في يد الهوى ويعرض عن ذكر المولى وهو غافل عن قوله تعالى (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى).
(والمداراة وضدها المكاشفة) المداراة في حسن الخلق التي من فروع الاعتدال في القوة الغضبية تهمز ولا تهمز يقال دارأته ودرايته إذا اتقيته وداجيته ولاينته، والمقصود أن مداراة الخلق وترك مجادلتهم ومناقشتهم صديقا كان أو عدوا، عاقلا كان أو جاهلا، من صفات العاقل كما يظهر ذلك بالاعتبار في حال الأنبياء والأوصياء والأولياء ثم الأمثل فالأمثل على تفاوت مقاماتهم وتفاضل درجاتهم، هذا إذا اقتصروا في حقوقه وأما إذا اقتصروا في حقوق الله تعالى فوجب تقويمهم واسترجاعهم بالحكمة والموعظة الحسنة من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن افتقر إلى الغلظة جاز عن قدر الضرورة من المواعظ الحسنة في استجلاب طبايع الجهال إلى الحق وتأنيسهم به أن لا يحمله عليهم دفعة فإن ذلك مما يوجب نفارهم عنه وفساد نظام أحوالهم بل ينبغي أن يحمله ويأنسهم به على التدريج قليلا قليلا وربما لم يمكنه تأنيسهم به إما لغموضه بالنسبة إلى أفهامهم، أو لقوة اعتقادهم في ضده فينبغي أن يخدعهم عن ذلك ويميلهم إليه بحسب ما يقتضيه الحكمة وربما يحتاج إلى إظهار الحق بصورة الباطل كاستدلال إبراهيم (عليه السلام) بافول الكوكب بعد قوله: (هذا ربي) على نقصها المنافي لالهيتها.
والمكاشفة من رذائل الأخلاق للجاهل ومن فروع الإفراط في القوة المذكورة وهي الخشونة والمناقشة وإظهار العداوة وإعلانها المؤدي المخاصمة والمجادلة والمقابلة إلى غير ذلك من المفاسد والشدائد الموجبة لفساد أحوالهم وبطلان نظامهم.
(وسلامه الغيب وضدها المماكرة) الغيب ما غاب عن العيون وإن كان محصلا في نفسه وكان المراد به هنا القلب أو رجل غايب، والمنكر الاحتيال والخديعة والمقصود أن سلامة القلب وخلوصه من الغش والاحتيال والخدعة في المعاملة مع الإخوان والمعاشرة مع الخلان وغيرهم أو سلامة كل غايب من صفات العاقل لصفاء طينته وخلوص عقيدته وعلمه بأن المؤمنين كنفس واحدة