شرح أصول الكافي - مولي محمد صالح المازندراني - ج ١ - الصفحة ١٨٠
(ونصيبه من الدنيا القوت) لأن العاقل الكامل يعلم بعين الاعتبار والبصيرة أن المال مادة الشهوات وحبالة الشيطان فلا يطلبه حذرا من الدخول فيها وأن من اقتصر على القوت لا يفتقر أبدا وأن من رضى به كان مستريحا في الدنيا ناجيا في الآخرة وإلى الوجهين الأخيرين أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: «لا مال أذهب للفاقة من الرضا بالقوت، ومن اقتصر على بلغة الكفاف فقد انتظم الراحة، وتبوأ خفض الدعة» (1) يعني من قنع فقد ألزم الراحة فلهذه الوجوه وغيرها رضي العاقل بالقوت وكف نفسه عن طلب الزايد عليه.
(لا يشبع من العلم دهره) دهره منصوب بنزع الخافض أي في دهره يعني تمام عمره، والمراد بالعلم المتعلق بأحوال المبدء والمعاد وغير ذلك من الأمور الدينية والأحكام الشرعية، وهذا العلم هو الذي يكسب به الإنسان الطاعة في حياته والذكر الجميل والثواب الجزيل بعد وفاته، وإلى مدح هذا العلم وأهله أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: «هلك خزان الأموال والعلماء باقون ما بقي الدهر» (2) يعني لتنور قلوبهم بأنوار الهية وفيوضات ربانية أو لاشتهار صيتهم وانتشار فضلهم فيما بين فرق الأنام إلى يوم القيامة، وفي قوله «لا يشبع» إشارة إلى أن العلم غذاء القلب وحياته وبه يتعذى ويتقوى ويكمل كما أن الطعام غذاء البدن وحياته وقوامه، وبالجملة شبه العلم بالغذاء إذ كما أن الغذاء سبب لبقاء البدن وحياته في مدة العمر كذلك العلم سبب لبقاء النفس وسعادته في الدارين، ولذلك يقال: الجاهل ميت.
والسرفي أن جوع العاقل في تحصيل العلم لا يسكن هو أن مراتب شوقه غير متناهية وكذا مراتب العلم كما قال سبحانه (فوق كل ذي علم عليم) فكلما وصل إلى مرتبة من مراتب العلم واستضاء قلبه بنور تلك المرتبة وكمل به واستشرق، رأى فوقها مرتبة أخرى أكمل منها وأنور فيسوقه الشوق إليها ويستضىء بنورها وهكذا إلى ما شاء الله ومن ههنا ظهر أن للعاقل في كل آن ترقيات وفي كل زمان انتقالات وابتهاجات وتلك الترقيات حقيق بأن تسمى معارج النفوس.
(الذل أحب إليه مع الله من العز مع غيره) لعل المراد أن ذل نفسه وهو مع الله بأخذ زمامها كيلا تتجاوز عن حدود الشريعة أحب إليه من عز نفسه وهو مع غيره بارسال زمامها لكي تجري في ميدان مرامها، فلا يرد أنه إذا كان مع الله كان عزيزا لا ذليلا لقوله تعالى: (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين، ولكن المنافقين لا يعلمون) ويحتمل أن يراد بالعز والذل ما هو المتعارف عند الناس أعني الرفعة فيما بينهم وعدمها يعني إذا كان المماشاة مع الناس موجبا لرفعة القدر

1 - أورده الشريف الرضي في النهج أبواب الحكم تحت رقم 371.
2 - النهج أبواب الحكم تحت رقم 147.
(١٨٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 175 176 177 178 179 180 181 182 183 184 185 ... » »»
الفهرست